رنده غندورة
  • لا تتزوّج، لا تسافر، لا تشترِ سيارة... انتظر الرئيس الجديد

  • المشاريع الفردية متوقفة في لبنان، وخيارات اللبنانيين المتعلقة بحياتهم اليومية صارت قليلة، إذ الخوف من تردي الأوضاع الأمنية والسياسية جعل معظم اللبنانيين يتجنبون القيام بخطوات قد تبدو بسيطة... الكل ينتظر أيلول حتى تعود الحياة إلى دورتها الطبيعية

    «اللبناني ينبعث من تحت الرماد»، مقولة نتغنى بها منذ فترة طويلة، حتى بات سياسيو البلاد يعتمدون عليها... وبصرف النظر عما يستهلكه هذا اللبناني من مهدئات لتخطي الأزمات المتلاحقة، وبغض النظر عن الأساليب التي يعتمدها «لتقطيع» الوقت، يعلق آمالاً على أمور مختلفة... لكن هذه الآمال غالباً ما تخيب.
    وقد نجح إعلان أحد البنوك الذي يتناول حيرة المواطن وتأرجح خياراته على هوى الأوضاع المرتقبة، في أن يعكس واقع الحال في البلاد، فأظهر ما يسكن المواطن من هواجس حول إنجاز العديد من شؤون الحياة العادية مثل الإقدام على الزواج أو استبدال سيارة بأخرى أغلى ثمناً، أو الطلب من قريب أو صديق في المهجر العودة إلى ربوع الوطن لقضاء العطلة الصيفية بين الأهل، وقد ارتأى المعلنون في المصرف أيضاً أن من واجبهم الإبقاء على الأمل فختموا إعلانهم بـ«رح نبقى هون».
    كثيرون سيبقون «هنا» لأنهم لا يملكون خياراً آخر، أي أنهم من شريحة لا حول لها ولا قوة، وإذا سلمنا بضرورة التروي قبل الإقدام على إنجاز الخطوات التي تعتبر مهمة مثل الإقدام على مشروع تجاري أو شراء منزل، فإن من يتخذ القرار بشراء بيت على رغم المخاوف التي تسيطر على اللبنانيين، يحتار في كيفية توفير قيمته المادية، ثم يجد نفسه أمام القرار الأصعب المتعلق بالمنطقة التي سيكون فيها هذا البيت، فثمة توزيع طائفي أو سياسي جديد في البلاد يجب أن يُراعىتأجيل أو إلغاء بعض القرارات ــــــ على رغم بساطتها ــــــ يعني الاستسلام للشلل والجمود والابتعاد عن الحياة الطبيعية. الشابة لور كاعين التي تعمل في مجال الإعلانات، تعتبر أنها فعلاً «متوقفة عن الحياة خلال هذه الفترة»، على رغم أنها تجاوزت ما سببته لها الانفجارات والانتقال من مكان الى آخر من وسوسة. لكن هذا لا يعني أن لور تخلصت من كل مشاعر القلق، فهي أيضاً تعيش حالاً من الترقب والانتظار، وتعتبر أنها تمر بفترة «جمود». لور كانت تخطط لمتابعة دورات في التصوير الفوتوغرافي، وعلى رغم أنها تحتاج إلى هذه المهارة في عملها، إضافة إلى حبها للتصوير، لكنها أجلت الأمر للتخفيف من تنقلاتها، وبالتالي لتهدّئ مخاوف والدتها التي تلاحقها عبر الهاتف باستمرار.
    ريتا نمر تحاول منذ أكثر من سنتين أن توفر بعض المال وقد نجحت في جمع مبلغ لا بأس به، فهي تريد أن تغيّر سيارتها القديمة بأخرى جديدة ومكيفة تخفف عنها حرارة الصيف. ريتا أيضاً تؤجل مشروع تغيير السيارة في الوقت الراهن تحسباً لأي طارىء قد تحتاج فيه إلى ما وفرته من المال.
    لور وريتا لا تشكلان استثناء، إذ معظم اللبنانيين واللبنانيات يفضلون تأجيل بعض المشاريع ويصير «الخيار الإلزامي» بالنسبة إليهم هو الانتظار على «هامش الحياة» لمعرفة ما ستؤول إليه الأوضاع السياسية والأمنية، وفي كل مرة يظن الناس أنهم تخطوا «أزمة» وأن الفرج سيطل برأسه بعد طول غياب، يدركون أن الأمور تزداد تعقيداً... وها هم اليوم ينتظرون الانتخابات الرئاسية، الاستحقاق الأقرب بعد مرور المحكمة الدولية ومراوحة مسألة حكومة الوحدة الوطنية مكانها وعدم القدرة على التكهّن بما ستؤول إليه... من دون نسيان معايشة الناس رعب الانفجارات المتنقلة.
    قد يبدو للبعض أن في بعض المشاريع المؤجلة نوعاً من الترف، وأن الاستغناء عنها ممكن، وهذا ما قررته فعلاً الصيدلانية ديزي عبود التي ألغت فكرة سفرها الى سريلانكا لاستكشاف هذا البلد، فهي صارت تخاف أن تترك أولادها، ولا تريد أن تبتعد عن زوجها، وهو ضابط في الجيش اللبناني ولن يكون قادراً على مرافقتها في عطلة صيفيةعبود لن تذهب إلى سريلانكا، وهذا أمر مفهوم، لكن هل يمكن التخيّل بأن يصبح قرار الذهاب الى القرية من القرارات المحيّرة عند بعض العائلات؟ السيدة ثريا حدشيتي تتخوف فعلاً من ترك أبنائها في بيروت لارتباطهم بأعمالهم والذهاب الى قريتها لتمضية فصل الصيف وإعداد المونة ـــــ كما تفعل كل عام ـــــ وذلك خوفاً من تدهور الأوضاع وهي في مكان وأولادها في مكان آخر...
    من اللافت أن تؤثر هذه الأوضاع على أولئك الذين لا يعيرون شؤون السياسة أي اهتمام، فتلامذة المرحلة النهائية أصيبوا بيأس خلال استعدادهم للامتحانات الرسمية، وبدا بعضهم غير مبال بالنتيجة، أي أن لا فرق بالنسبة إلى هؤلاء بين النجاح أو الرسوب، ما دام وجودهم نفسه مهدداً بسبب الأوضاع الأمنية السيئة، إذ يشعرون أن مستقبلهم «مشوش»، ولم يقتصر هذا الإحساس على طلاب الشمال ومحيط مخيم نهر البارد، بل طال معظم الطلاب في لبنان.
    يصف البعض ردات الفعل هذه أو بالأحرى «عدم الفعل» بأنه سلوك استسلامي مبالغ فيه، إلا أن الأستاذ في علم الاجتماع والباحث في شؤون الأسرة والتنمية الدكتور زهير حطب يرى أن خبرة اللبنانيين في ظروف مشابهة في فترات سابقة تؤكد أن كل شيء متوقع وأن بناء برامج أو خطط على أساس المنطق والواقع والمعطيات الراهنة أمر غير مضمون، لأن لبنان، بخلاف معظم المجتمعات التي تتحكم بها عوامل مؤثرة حاكمة وقواعد منطقية، يشكل نموذجاً مختلفاً الى درجة بات فيها أبناء هذا الوطن يضعون احتمالات غير منطقية، لكنها تشبه مسار تطور الأمور في هذا البلد. وعلى هذا الأساس يرى بعض اللبنانيين أن لا ضرورة لأن يقوموا بأي مبادرة أو عمل يكون من شأنه تفعيل إمكاناتهم أو مدخراتهم أو آمالهم، لأن من شأن مبادرة مماثلة أن تشكل ما يشبه الوقود لخسارة جديدة في بلد تتعزز فيه فرضية الانتحار الاجتماعي، فيما تسود نظرية تقول بأن الوضع يتجه نحو الهلاك والنهاية.
    في المقابل ثمة أشخاص غير مبالين بما يدور حولهم من أحداث، يتابعون حياتهم وأعمالهم بشكل طبيعي، وهي حال رئيس جمعية terre بول أبي راشد الذي يرى أن موضوع البيئة لا يتأثر بالحرب بل يهتم بالبناء لفترات لاحقة، هذا المنطق يدفع الى عدم التواني عن اصطياد الفرص للإعداد لمشاريع مستقبلية منها المشروع الوطني لحل مشكلة النفايات والمشروع الوطني للتربية على المواطنية البيئية... بالإضافة الى نشاطاته مع الأولاد واستقباله لهم في جمعيته وفي حرش بيروت أيضاً لتدريبهم على الزراعة. ولكن ثمة سؤالاً يواجهه بول في الآونة الأخيرة ألا وهو «ألا تخاف على سلامتك؟» فيجيب: «يهدأ نشاطنا حين تقع انفجارات، ونستعيده بعدها كما طائر الفينيق بعد كل مصيبة ينتفض ويكسر الخوف.. لن يمنعنا شيء من تحقيق مشاريعنا».
    نسيم عبد الرضا لا يتابع نشرات الأخبار، وقد نصح الموظفين في دار النشر التي يملكها أن يسيروا على خطاه لكي لا «تتوتر أعصابهم»، الأمر الذي يمكن أن ينعكس على سير العمل. يتحلى نسيم ببرودة أعصاب وكأنه لا يعيش في هذا البلد.. وهذا في حدّ ذاته يشكل الكثير من الاستفزاز للمحيطين به.
    يندرج هؤلاء الأشخاص، بحسب دكتور حطب، ضمن فئتين اجتماعيتين: الأولى من الذين لا تتأثر أوضاعهم الاقتصادية بالنظام السياسي ولا الاقتصادي، وعندما يواجه هؤلاء صعوبات يكون السفر هو الحل الأمثل بالنسبة إليهم.
    أما الفئة الثانية فتتشكل من أناس لا يواكبون تطور الأمور، ويستسلمون للقضاء والقدر، وهم أشخاص غير مسيّسين ويطلق عليهم تسمية المتواكلين أي المقتنعين تماماً بـ«اللي بيجي من الله يا محلاه».




    لمن يهمه الأمر

    في ظل الجمود المسيطر على الحالة الاقتصادية عموماً، واقتصار ما يتطلبه معظم الناس على ضروريات الحياة اليومية، من دون الاهتمام بالبحث عن الوسائل والجوانب التي قد تدخل المتعة الى نفوسهم بشكل إلزامي ومؤقت، اختار أصحاب العديد من المحال والمؤسسات التجارية استخدام الوسائل التكنولوجية لجذب الزبائن الذين لم تعد تلفت نظرهم اللوحات الإعلانية على الطرقات أو على زجاج المحال حتى وصلت الحسومات الى 50 أو 70 في المئة، فكانت إحدى هذه الوسائل هي الرسائل الخلوية التي تصل لكل فرد بشكل شخصي والتي أعطت ثمارها في ترويج بضائعهم، وهي تنهال على الزبائن بشكل متكرر أحياناً متحدثةً عن حسومات على الثياب في معظم الأحيان.
    ولكن هذه الرسائل قد تجعل «من يهمه الأمر» يتنبه إلى أن سرقته كانت تتم بشكل بسيط جداً عندما كان يدفع ثمن القطعة أضعاف سعرها الحقيقي بحجة أنه زبون «بداية الموسم» أو «النوعية» أو غيرهما من وسائل «الشطارة في التجارة».
    وقد طالت العروضات السيارات الجديدة ليشكل التقسيط المحفّز الأكبر للزبائن، بالإضافة إلى تحمّل الشركة كلفة الـTVA وحتى التسجيل...
    ومع كل المغريات التي تُقدم يسارع المتلقي الى الضغط على خيار المسح (delete) بهدف ترك المجال للرسائل المخصصة لخدمة الأخبار التي يحصل عليها المتابع من خلال الاشتراك الاختياري، لتطالعه بأحدث الأخبار وأحياناً أتفه التفاصيل.. ولكنها الأكثر جاذبية حالياً، وبشكل خاص لكل من يجرؤ ويترك شاشة المحطات الإخبارية ويشعر بالخجل من «اصطحاب» الراديو معه أينما اتجه..