استراحة قصيرة لتناول طعام الغداء، بعد ساعات من العمل، كانت كفيلة بالقضاء على أكثر من أربعين شخصاً، من أصل ستين على مقربة من الحدود اللبنانية السورية لجهة بلدة القاع. هم عمال موسميون، كانوا يعملون ذلك النهار على تعبئة ثمار الدراق في الشاحنات العائدة لمشروع ناصر الجبالي وطوني شديد لشراء المحاصيل الزراعية. ذلك اليوم أرادوا أن يعودوا إلى بلداتهم في عفرين ودير الزور والرقة في سوريا، إلا أن صاحب المزرعة أصرّ على بقائهم لجمع الرزق وتوضيبه فبقوا.
عند الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر يوم الجمعة 4 آب 2006، أنهى العمال المياومون قطف الدرّاق. احتموا من حرّ الشمس في ظلال سقف مشغل التوضيب، وتحلّقوا حول طعامهم البسيط، المليء بأحلامهم من دون أن يعرفوا أنه سيكون غداءهم الأخير.
دقائق معدودة، وسقط صاروخان في المكان وفـــــور محاولة العمال الذين كـــــانوا بالـــــجوار إنقاذ رفاقهم، أغارت طائرة اخرى بعد 7 دقائق على الأولى، فدُمّر منزل الناطور. هم أناس لا ذنب لهم سوى أنّهم قرّروا كسب عيشهم بعرق جبينهم، فأتوا من سوريا لتأمينه من دون أن يعرفوا أنه سيكون خروجهم الأخير وأنهم سيعودون إلى وطنهم متوحدين حول لقمة العيش، كما هي عادتهم في الحياة.
بعد مرور عام على الاعتداء، يبدو موقع المجزرة خالياً من أي حركة... لا شيء سوى الصمت ورائحة البارود المختلط بدماء الكادحين الفقراء، وقد أنبتت الأرض مكانه شقائق نعمان وصبّار... كلّ شيء هناك لا يزال يدلّ إلى الموت: دمار، خيم محترقة، أقفاص مبعثرة، لا أناشيد وردّيات، لا كدّ وتعب ولا حياة. وحده دخان المجزرة تحوّل إلى بخور أشعله ذوو الشهداء.
خلال وجود «الأخبار» في المكان، يصل خمسة أشخاص في سيارة صبغها الغبار بلونه. ترجّلوا منها وبدأوا يبعثرون المكان. تارة يقلّبون الحجارة وطوراً يتفقدون ما يمكن أن يكون قد بقي من خرق وأشياء ما زالت تحتفظ برائحة أجساد مزّقها الانفجار. هم أقارب من رحلوا. نشأت عيوش، رجل في الخمسين من عمره، فقد ابنه وابن أخيه. في لحظة نزوله من السيارة وتفقدّه الزاوية التي كان ابنه يتخذها مكاناً لاستراحته في ذلك اليوم المشؤوم، بدأ يستعيد شريط الذكريات. هو كان معهم في المكان، لكنه قبل لحظات من الغارة خرج يجلب قربة ماء له ولمن حوله «إلا أن طائرات الحقد كانت أسرع وسقتهم كأس الموت الأبدي».
غير بعيد عن هذا المكان موقع الغارة الثانية التي أتت على بيت الناطور. مشهد الموت ذاته يتكرّر.
ذلك اليوم روى أحد الناجين من المجزرة، محمد خليل بن طاهر لوسائل الإعلام أنه كان على العمال أن يملأوا شاحنتي براد كبيرتين، وعقدوا العزم على أن ينهوا التحميل قبل موعد الغداء وهكذا كان: جلسنا إلى مائدة الغداء، نحن بقينا أحياء لأننا ذهبنا لإحضار الماء أو الشاي من مكان آخر. فجأة سقطت قذيفة زلزلت «الهنغار» الذي كنا نوضّب فيه الدراق. ركضنا لنرى ما الذي جرى وإذا بقذيفة أخرى تقضي على من بقي من الأحياء وأصبنا نحن بالشظايا.
وروى والد الجريحة حلا أنه كان على بعد 500 م من الحادث حين سمع دويّ الانفجار. ركض بشكل عفوي ليسعف زملاءه فوجد ابنته بينهم تتضرج بدمائها. قام ومن معه بنقل الجرحى وأشلاء الشهداء إلى أمانة الجمرك السوري بسياراتهم الخاصة، ليتولى الهلال الأحمر السوري إسعافهم إلى حمص، إذ يبعد موقع المجزرة نحو 3 كلم عن الحدود السورية.
تبقى قصة الشابة عوفة (17 عاماً) الأكثر تأثيراً في نفس صديقتها بريفان التي ذكرت أن عوفة كانت توضّب الدراق «ويخرج القفص من بين يديها لوحة تسرّ الناظرين». بعد الانتهاء من عملها، وضعت زادها المؤلّف من طبق صغير من البطاطا المحوّسة ورأس من البندورة وقطع من الفجل والبصل وكسرات خبز بقيت من الفطور».
لكن عوفة لم تبدأ مباشرة بتناول الطعام، فأحلامها المخملية حضرت في مخيلتها. روت بريفان: «كانت تحلم دائماً في بناء منزل وتأليف عائلة وتنتظر اليوم الذي تكون فيه عروساً، وكنّا نسمعها بعد انتهائها من قطف كلّ ثمار إحدى الأشجار تزغرد عالياً وتقول «عقبال فرحتي».
أما والدة عوفة التي أمست ضريرة منذ استشهاد ثلاثة من أولادها في تلك المجزرة، فقالت: «استشهدت ابنتي مع شقيقين لها، لكن ما يجعلني أفجع بعوفة أكثر حديثها معي في صبيحة ذلك اليوم وإسرارها لي ببعض أحلامها المستقبلية. صوتها ما يزال يرن في أذني كموسيقى جميلة لن أنساه أبداً».
ذلك اليوم كان الوصف الابلغ ما جاء على لسان مختار القاع سعادة التوم شهداء المجزرة ببعض الكلمات العفوية «إنّهم شهداء الرغيف ولقمة العيش. لقد قتلوا ولم يجفّ عرقهم بعد من تعب
العمل».
«شهداء الرغيف» الذين أهملهم بعض الإعلام التلفزيوني اللبناني، ولم تنصفهم شاحنات المساعدات ولا أكياس التعويضات. حتى في استذكار المجازر والويلات، كانوا مهمّشين مبعدين، يحق لهم ممن يدّعون الحرية واحترام الإنسان بعضاً من وفاء ونذراً يسيراً من الاعتراف بجميل العطاء بالدم والأرواح، بعيداً عن جنسيتهم التي لا علاقةلها بتقبل الشهادة أو ردّها.
يقول المسؤول الإعلامي لـ«حزب الله» كمال مخ في مدينة الهرمل: «عندما ذهبنا برفقة وفد مؤسسة الشهيد إلى بلدات الشهداء لدفع التعويضات لذويهم كانت المشاهد أكثر إيلاماً من الحدث، عائلات فقيرة تيتّمت وفقدت أعزّاء، لكنها كانت صلبة العزيمة، مستعدة للتضحية أكثر».
بعد أيام ستنتصب جدارية في المكان تؤرّخ للهمجية الصهيونية وللتضحية الإنسانية المجبولة بالدم والعرق والتراب، علّها تساهم في أن «لا ننسى» خدمة لإسرائيل وإنصافاً للشهداء.
(الاخبار)





من شهداء المجزرة

محمد عليكو بن عبدو (1940)، محمد عليكو بن محمد (1983)، عبد الرحمن بن بكر بن حميد (1953)، آيتان بكر بنت عبد الرحمن (1985)، محمد يعقوب بن عبد الرحمن (1978)، نضال يعقوب بن عبد الرحمن (1983)، رشيد معدان بن عزت (1980)، عزيزة معدان بنت عزت (1978)، آلماز بريم بنت محمد (1954)، عوفة وقاص بنت عبد الحميد (1989)، رشيد عبوش بن نشأت (1983)، مصطفى عبوش بن نشأت (1986)، حسن عبوش بن جميل (1979)، أسعد سيدو بن مصطفى (1971)، فريد سيدو بن حسن (1983)، روجين سيدو بنت حسن (1989)، حنان أحمد بن عثمان (1982)، وحيد شيخو (1969)، شيخ عثمان شيخ حيدر (1989)، محمد مصطفى بن محمد (1980)، أحمد رشيد بن جميل (1960)، جميل رشيد بن أحمد (1962)، شكري وقاص بن عبد الحميد (1979)، مزكين وقاص بنت عبد الحميد (1987).




عودة محمد سليم بعد 4 أيام من اختطافه

طاريا ـــ رامح حمية

لا يزال ابن السادسة عشرة يحمل في داخله ذلك الشعور بالرهبة والخوف كلّما تذكّر حادثة اختطافه لمدة أربعة أيام على يد فرقة كوماندوس اسرائيلية، من أعالي جرود بلدة طاريا، ونقله الى سجن في تل أبيب قبل الإفراج عنه في مثل هذا اليوم من العام الماضي.
لم يكن الوصول الى محمد خليل سليم بالأمر اليسير. فقد خرج كعادته ومنذ ساعات الصباح الأولى مع قطيع ماعزه إلى أعالي السلسلة الغربية. بعد ساعتين من البحث وجدنا ضالتنا على ارتفاع أكثر من 2000 متر عن سطح البحر. كان يجلس على صخرة مطلّة على سهل البقاع الفسيح، وما إن رآنا حتى أشار بإصبعه قائلاً: «تلك هي جورة الخضرا حيث اختطفت في 1 آب».
ذلك اليوم بدأ الكلب المرافق للقطيع بالنباح بشكل غير اعتيادي، «عندما اقتربت منه لاحظت أن إحدى الصخور الى جانبي قد اهتزت. كان شكلها مغايراً لباقي الصخور. حاولت أن أغيّر وجهة سيري لكن الصخرة تحرّكت من جديد وخرج منها رجل يلبس زيّاً زيتياً ويحمل سلاحاً. هممت بالركض لكنّه سارع إلى ضربي بكعب بندقيّته بين كتفي، فسقطت على الأرض وأذكر أني صرخت «دخيلك ما تقتلني ما عملت شي»، فصرخ بوجهي وبلغة عربيّة ثقيلة قائلاً: «لا تصرخ». بعد 14 ساعة على احتجازه، نقل محمد الى داخل الكيان الصهيوني. هناك قال له أحد المحققين: «أهلاً بك في دولة إسرائيل». عندها «بدأت بالبكاء والصراخ»، فأجابني أحدهم: «بدنا نسألك كم سؤال ومنردك».
قضى محمد سليم خمسة أيام متواصلة في تل أبيب ركّزت خلالها التحقيقات على أسئلة عن «حزب الله» ومواقعه. وعندما أيقن الاسرائيليون أنه لا يملك أي معلومات سلموه إلى قوات الطوارئ الدولية ليعود إلى أهله سليماً معافى، ويعود إلى جرود بلدته حراً طليقاً لا يملك في مخيلته إلا صدى تلك الحادثة.