strong>ثائر غندور
عندما خيّم الليل على الجنوب اللبناني في التاسع عشر من تموز 2006، جلس أطباء مستشفى صور الحكومي وممرضوه وموظفوه في باحة المستشفى. هناك شيء يؤرقهم. أكثر من مئة جثّة في برّادين معدّين لحفظ الخضر والمواد الغذائية. تحوّلت هذه الجثث إلى عبء كبير على إدارة المستشفى كما شكلت تهديداً كبيراً للجوار وخصوصاً من ناحية تهديد البيئة بفعل تحلّلها وانبعاث روائح خطيرة تؤدّي إلى أمراض.
ما العمل؟ كان هذا السؤال في ذهن كلّ فرد في المستشفى. اقترح أحد العاملين: «دعونا ندفن الجثث دفن الوديعة». وراح يشرح لزملائه معنى دفن الوديعة، وأن هذه التجربة حصلت عام 1982 «وما زالت بعض الجثث مدفونة في تلك الباحة».
هكذا انطلقت ماكينة العمل. كل واحدٍ له دوره. رئيس المستشفى الرائد سلمان زين الدين اتصل بالمراجع العسكرية والسياسية لأخذ موافقتها، وحصل على إذن من وزارة الدفاع بالدفن في أرض تابعة لها، قرب ثكنة صور. رئيس بلدية صور عبد المحسن الحسيني حصل على موافقة المراجع الدينية. أما الجهاز الطبي فوضع جدولاً بجثث الشهداء ومعلومات عن كل جثة بعد إعطائها رقماً حتى لا يحصل لغط عند إعادة سحب الجثث.
بقيت مشكلة واحدة: «من أين نأتي بالخشب؟». بعد بحث طويل وجد الحسيني الحلّ في إحدى المناشر في صور، فاتصل بصاحبها مستأذناً فتح المنشرة واستخدام الخشب. وبدأ جميع العاملين في المستشفى من طاقم طبي وإداري، يعمل على نشر الخشب بمساعدة عناصر من الجيش. لم يكد الصباح ينبلج، حتى فوجئ بواحد وسبعين تابوتاً خشبياً جاهزين.
«بقيت مشكلة واحدة» يقول المدير الإداري في المستشفى الدكتور مصطفى جرادي وهي: كيف سنعرف لمن هذه التوابيت؟ فالجثث معرّضة للتحلّل وكذلك الخشب. فكان اقتراح بالاستعانة بـ«بلاكات» حديد صنعت من ألواح الزينكو في مخيم الفلسطينيين بعد ان قصت الى قطع صغيرة، ثم حفروا بالمسامير رقماً على كلّ منها.
انتهى الإعداد اللوجستي. أُعيد توضيب الجثث في أكياس النايلون، ووضعها عناصر الجيش اللبناني في التوابيت ثم حملوها إلى الشاحنات «على رغم الرائحة المنبعثة منها والسوائل التي كانت تتسرّب» يقول جرادي. وتكرّرت عملية دفن الوديعة مرّتين. في المرّة الثانية دفن ثلاثة وثلاثون شهيداً في واحد وثلاثين نعشاً، والمرّة الثالثة دُفن أربعة وثلاثون شهيداً. وعمل طاقم المستشفى في كل مرّة على دعوة الإعلام إلى عملية الدفن، إذ إن «إبراز جرائم العدو جزء من عملنا المقاوم» بحسب جرادي. ويشير عدد من الذين عملوا على دفن الوديعة إلى أن الطائرات الإسرائيلية كانت تحوم فوق رؤوسهم على علوّ منخفض، ونفذت غارات حقيقية ووهمية بالقرب منهم.
اكتمل كل شيء، وبقي الذي سيصلي على الجثامين. لم يجدوا شيخاً شيعياً، فاستعانوا بإمام مخيم البص، وهو سنّي، «فوقفنا جميعاً بخشوع، حتى الذين لم يصلوا من قبل وجدوا أنفسهم أول من بدأ الصلاة».
كان دفن الودائع واحداً من الأعمال «الهامشية» في مستشفى صور الحكومي الذي أدّى دوراً يتجاوز إمكاناته بكثير في الحرب. فهو يقع في قلب مخيّم البص ويحتاج مبناه إلى عمل كثير حتى يتحوّل إلى مبنى يليق بمستشفىً حكومي. لكن ذلك لم يمنع تحوّله إلى الحلقة الأساسية في العمل الطبي في منطقة صور.
فقد شُكّلت غرفة عمليات جمعت ممثلين عن مستشفيات المنطقة: حيرام، نجم، جبل عامل، وهيئات الإغاثة: الصليب الأحمر، الدفاع المدني، جمعيتي الرسالة والمهدي وغيرها... وحُصر العمل الطبي بهذه الغرفة. فهي مسؤولة عن تلقي كل نداءات الاستغاثة، ثم تُقوّم الوضع وترسل العدد المطلوب من سيارات الإسعاف والمسعفين، حتى لا تتكرّر الأخطاء التي كانت تحصل في الحروب السابقة، بحسب ما يقول الدكتور جرادي شارحاً: «كان يصل خبر قصف بلدة ما، فتهرع كل سيارات الإسعاف إلى مكان واحد». ومن جهة ثانية، كان يُوزّع الجرحى على المستشفيات بحسب قدرة كل منها الاستيعابية. ووصل عدد الجرحى الذين استقبلهم المستشفى الحكومي إلى مئتين وخمسين جريحاً وثمانين مريضاً.
وخُزّنت المواد الطبية في المستشفى، «لتكون مستودع المنطقة كلّها»، ووُزّعت الأدوية والمستلزمات الطبية على المراكز الطبية والمستوصفات وصولاً إلى المستشفى الحكومي في تبنين.
لم يقتصر عمل المستشفى على الشأن الطبي، بل استقبل النازحين، وعمل طاهي المستشفى أبو عصام حاج علي على توفير الغذاء لهم جميعاً، وعندما كان يسأله أحد عن كيفية توفير الغذاء، يأتي الجواب: «إعملوا وما يهمكم الموضوع. المهم تخلّصوا العالم».
انتهت الحرب في الرابع عشر من آب. سُحبت الجثث من المدافن، لتذهب إلى مثواها الأخير في قراها، من دون حصول أي خطأ، أو ضياع. أثبت المستشفى الحكومي أهميته وضرورته للمنطقة في الحرب الأخيرة. لكن الحرب انتهت من دون أن تدفع هذه التجربة الحكومة أو غيرها، إلى الالتفات إليه وتوفير كل المستلزمات من أجهزة طبية، وزيادة الطاقم الطبي... ثلاثة وثلاثون يوماً من العمل، وكأن شيئاً لم يحصل.