strong> منهال الأمين
22 عاماً من تجربة العمل التطوعي في «الصليب الأحمر اللبناني» قادته إليها رغبته الجامحة في قيادة السيارة بسرعة. تطوّع بسام المقداد (40 عاماً)، من بلدة لاسا (قضاء جبيل) في الصليب الأحمر عام 1985 في خضمّ الحرب الأهلية. في الضاحية الجنوبية كانت انطلاقته، ومنها إلى المدى الذي تتيحه سرعة الإسعاف وتفرضه حالات الطوارئ التي يحفل بها بلد مثل لبنان بدءاً من الحروب الداخلية وليس انتهاءً بالحروب الإسرائيلية المتوالية.
هكذا بدأ بسّام شغوفاً بالسرعة، لكنه صار مع الوقت يلامس الوجع، يقلّبه بين يديه، يسمع أنين الجرحى ويشهد لفظ الأنفاس الأخيرة. «طبيعة عمل المسعف تدخله في أتون الخطر» يقول بسام شارحاً كيف صار لعمله نكهة خاصة، فلم يعد الأمر بالنسبة إليه مجرد سيارة تسابق الريح. «بعد كل مهمة كنت أسمع دعاء الأمهات والشيوخ... الله يخليك لأهلك، الله يرد عنك... أحسست بأنني أقوم بعمل نافع والناس يقابلونه بكثير من العرفان بالجميل. وجدت نفسي أمام مسؤولية كبيرة. صرت أعي حقيقة أن يقال لك «مسعف».
في الوقت الذي تطوّع فيه بسام في الصليب الأحمر توظف في مصرف لبنان. ولكن ماذا الذي جمع هذا مع ذاك؟
«لا شيء، الأول عمل أعتاش منه والثاني من دون مقابل، أو كما نقول عندنا لكسب الأجر». أما كيف يوفق بين «المهمتين» فيقول إنّه وجد تفهماً من حكام المصرف ورؤسائه في العمل منذ تاريخ عمله فيه. فقد غاب عن عمله طوال أيام حرب تموز الـ33 ومع ذلك لم يحسم من راتبه قرش واحد. زملاؤه ومديروه يقدّرون تضحياته ويشجعونه وهم يعتبرونه ممثّلاً للمصرف في هذه المهمة الإنسانية. ومع الوقت تحول إلى «الطبيب» الخاص بهم خلال وقت الدوام وربما خارجه، فيعالج أية حالات صحية طارئة قد يتعرّض لها العاملون في المصرف.
رجل المهمات الصعبة، هكذا بات يعرف، حتى أطلق عليه رفاقه اسم «كوموندو»، وهي عادة درج عليها عناصر الصليب الأحمر إذ يطلقون ألقاباً على بعضهم تتناسب وشخصية الملَقَّب، مثل «تلجة» (لمن يتمتع ببرودة أعصاب)، سيلفر...
خلال الحرب الأهلية صار الموت فعلاً يومياً أمام بسام المقداد، «كنت أنقل الجثث يومياً حتى صار أمراً اعتيادياً، فقد أمرّ بمنزلي وأنا في ذروة العمل فأركن الإسعاف المحملة بالجثث، أتغدّى، ثم أتابع العمل»!.
في المشوار الطويل أصيب «كوموندو» مرات عدة في رأسه ورجله و... لكن أبلغ الإصابات أثراً هي تلك التي «تحفر في القلب عميقاً. فمهما اعتبرت نفسي جريئاً وقلبي قوياً، كما يقال عني، إلا أن مشاهد الأطفال المحترقين والمقطعين تفعل فيّ فعلها، وخاصة بعدما تزوجت (ممرضة أيضاً) وأنجبت 4 أطفال...».
لهذا يرى بسام أن تجربة عمله في حرب تموز هي من أصعب وأهم التجارب التي مرت عليه. كان أول الواصلين إلى المبنى الذي وقعت فيه مجزرة «قانا» الثانية: «كنّا في صور حين تلقينا اتصالاً عند الثانية والنصف فجراً عن قصف تتعرّض له «قانا». لم نعرف حجم الأضرار ولا طبيعة الإصابات. ولأن الإسرائيليين لم يوفروا سيارات الصليب الأحمر وقصفت لنا الـMK سيارة إسعاف كنا ننقل فيها جريحاً بُترت ساقه، أخذنا قراراً بعدم الخروج ليلاً. عند السادسة صباحاً توجهنا إلى المكان فقطعت علينا الطائرات الحربية الطريق في منطقة الحوش. نتيجة معرفتنا بالمنطقة وطرقاتها استطعنا سلوك طرق فرعية أوصلتنا إلى موقع المجزرة. بداية شاهدنا نساءً يركضن ويصرخن: مجزرة، مجزرة. ثم التقينا جريحين كان أحدهما مُقعداً أشار علينا بالتقدم إلى الأمام. تابعنا السير وإذا بنا أمام الفاجعة. لم تكن هناك دماء ولا أشلاء بل عشرات الأطفال والنساء والشيوخ قتلى.. اختنقوا ثم استشهدوا مطمورين تحت الأنقاض بفعل الغارة الإسرائيلية.
لم يتحمّل «كوموندو» ما رأته عيناه ولمسته يداه. لم يقوَ على إخفاء تأثره. رآه الجميع منكسراً على غير عادته. في قانا الأولى كان المشهد رهيباً. الأطفال، النساء، الرجال، كانوا مقطّعين. أما في قانا الثانية فقد اختنقوا ثم استشهدوا. تطلّب ذلك وقتًا بالتأكيد «بقيت نصف ساعة أحاول فصل طفل دون السنتين عن أمه. كأن الأم حين أغارت الطائرات احتضنت طفلها لترد عنه الأذى..! فقدت قواي. ضعفت أمام مشهد الأطفال المختنقين. حاولت أن أخفي مشاعري لم أفلح. تساءل رفاقي إن كنت «كوموندو» الذي يعرفونه. نعم أنا المسعف المخضرم الذي مر عليه ما شاب منه شعر الرأس، لكنني لا أفهم ما هو ذنب هؤلاء الأطفال حتى يقتلوا».
يعرف بسام جيداً أنه كعنصر في الصليب الأحمر ممنوع عليه الخوض في السياسة، لكن «دعني أسجل، أنا المواطن اللبناني، أن هذا العدو مجرم قاتل لا يقيم حرمة لأي أحد ولا لأي شيء. نحن تعودنا هذه المشاهد، إلا أننا لم نألفها».
بعد قانا، لم ينسحب «كوموندو» من الميدان. زار عائلته خلال الحرب مرة واحدة. اطمأن إلى حالة الصغار وأمهم ثم عاد إلى الجنوب، وهذه المرة توغل أكثر. ذهب إلى مركز تبنين (قضاء بنت جبيل). شارك في أعمال الإنقاذ والإغاثة. أجلى الكثير من الجرحى وساهم في نقل المواد التموينية للمحاصرين داخل القرى ووصل إلى عيناتا وعيترون وبنت جبيل ويارون ورميش وياطر والطيري وبرعشيت وشقرا والصوانة «في الفترة الأخيرة من الحرب لم نعد نرى أحداً في القرى فصرنا نوقف الإسعاف في أول البيوت وننادي على الناس، وقد يأتي من يدلّنا على الجرحى والمرضى وقد لا يأتي فنعود أدراجنا».
يروي بسام أن أحدهم كان دائماً يتصل به ويطلب منه العمل على إجلاء والده المريض والمحاصر في إحدى القرى الأمامية لأنه يحتاج حاجة ماسّة إلى الدواء. «كان الوصول إلى تلك القرية مستحيلاً فعلاً ولم أتمكن من ذلك طوال الأحداث. عندما توقفت الحرب عدت والتقيت هذا الشخص صدفة فسألته مباشرة عن والده وأخبرني أنه توفي لأن الدواء لم يصله. شعرت بالذنب ـــــ رغم أنه ما في اليد حيلة ـــــ لأنه كان قد قال لي في آخر اتصال «إذا لم تستطع إجلاءه فأرجوك أن توصل له الدواء...».
بعدما اشتدت وطأة الغارات طُلب من بسام ورفاقه إقفال مركز تبنين فرفضوا. اختاروا البقاء لأنهم ليسوا أفضل ممن يضحّون في سبيل الوطن الذي شهد عشرات بل مئات الضحايا من المدنيين وشهداء وجرحى مقاومين «كبر قلبنا بهم كيف ما بدنا نصمد؟».
عنصر الصليب الأحمر مخيّر في عمله «المخاطرة هنا على مسؤوليتنا الشخصية لأنه لا حصانة لأحد. سقط لنا شهيد خلال القصف على موكب النازحين من مرجعيون بعد الحادثة الشهيرة. كذلك دُمرّت 3 سيارات إسعاف». يطلب منك بسام ألا تسأله لماذا يقحم نفسه في كل هذا، فقناعته راسخة «أنك لو كنت تحت سابع أرض، ما ينتظرك سيصيبك ولن يمنعه عنك شيء».
الصليب الأحمر عالم بسام الكبير. هو البحر الذي يتنفس فيه كسمكة مغامرة. عالم مليء بالأسرار، منها أسرار المهنة ومنها تفاصيل يكمن فيها الكثير من الأحداث والمواقف والقصص المثيرة روى «كوموندو» منها شيئاً وغابت عنا أشياء...