strong>بلال عبود
  • فقراء «سان ميشال» يخترعون وسائل التسلية... أو يهاجرون

  • يلاحق الفقر أبناء المناطق الشعبية في كل ما يقومون به من عمل ودراسة، ويضيّق عليهم في طموحاتهم ومستقبلهم، فتتحول أيامهم إلى حرب طويلة من أجل الهروب من الملل واختراع أساليب غير مكلفة للترفيه لكي تستمر الحياة ولو بأدنى مقوماتها... في الجناح عند أطراف بيروت، مثلما في كل أحياء الفقراء، لا يختفي الترفيه بل يتماشى مع الواقع...

    يربط بين الجناح والأوزاعي حي شعبي يسمّى الـ«سان ميشال»، لا يبعد فعلياً عن كورنيش البحر وأحياء بيروت الراقية إلاّ أمتاراً قليلة.
    السان ميشال عند تخوم مناطق الأثرياء يضم خليطاً واسعاً من السكان الذين يتشاركون حياة اجتماعية مميزة بتنوعها الإنساني، فأبناء هذه المنطقة هم من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين والأكراد، وهم يسكنون الحي منذ سنوات الحرب الأهلية حيث نزح معظمهم إليه من الكرنتينا وتل الزعتر.
    يعيش سكان «سان شارل» واقعاً اقتصادياً سيئاً جداً ينعكس في مختلف الجوانب الاجتماعية والحياتية. فالبطالة تتفشى بين الشباب حيث هاجر عدد منهم، والباقون يحاولون أن يمضوا أيامهم على أمل تحسن الوضع في المستقبل.
    الحي يُعرف بين أبنائه بـ«حي الشاليهات» نسبة إلى المنتجعات البحرية التي كانت منتشرة فيه في السبعينيات قبل قدومهم إليه، أما اليوم فلم يبق من ذلك الزمن إلاّ الاسم والشاطئ الرملي الذي هو مصدر رزق لعدد من أبنائه وموقع ترفيهي لمعظم شبابه.
    مصطفى عبد العزيز من شبان الحي، يقضي أيامه في مساعدة والده، وهو ما يسميه «عملاً بدون راتب»، قبل أن يبدأ جلسته اليومية على شاطئ البحر، فعند الساعة الرابعة من بعد ظهر كل يوم يحمل مصطفى النارجيلة والمظلة ويحجز لنفسه «زاوية» على الشاطئ بانتظار توافد باقي الشباب. يصل رفاقه تباعاً إلى المكان الذي يرونه نافذة ومتنفساً ليس بعيداً عن البيوت المبنية فوق الشاطئ مباشرةً..
    حين تخف حرارة الشمس قليلاً يتوزع الشباب في فريقين، ويبدأون بممارسة الهواية الأكثر شعبية في الحي وهي لعبة كرة القدم على الشاطئ والتي لا تحتاج سوى إلى كرة وخشبتين هي المرمى. تستمر المباريات حتى غروب الشمس حين تنعدم الرؤية. أما الأحاديث والتعليقات على المباريات فتستمر طوال الليل... حتى اليوم الثاني. الخاسر يصبح محوراً لسخرية الآخرين واستفزازهم طوال السهرة، والتخلص من التعليقات هي الجائز الوحيدة التي يتلقاها الفريق الرابح إلا إذا تم وضع رهان مسبق على النتيجةيختصر رامي سلمان برنامجه اليومي بثلاثة أمور: الذهاب إلى العمل، والعودة بعد ذلك إلى الشاطئ، والنوم باكراً لأن عمله يبدأ باكراً في شركة الغاز القريبة من الحي. هذا البرنامج اليومي يتبعه أيضاً عدد من شباب الجناح الذين يرون أن البحر هو أفضل مكان لتمضية الوقت إما في السباحة أو الصيد «فالنعمة الوحيدة في هذه المنطقة هي البحر» يقول عباس دبوق، ويضيف صديقه ناجي حسن «لا نكاد نعرف الكهرباء في الحي، والتقنين عندنا قائم منذ سنين» وهو يرى أن ما تشهده المناطق الأخرى من تقنين اليوم لا يقارن بانقطاع الكهرباء شبه الدائم عن الجناح، لكن سكان المنطقة صاروا يعرفون كيف يتغلبون على الظروف السيئة، فمع انقطاع الكهرباء «تكون السهرات مشتركة في ساحة الحي أو أمام البيوت بدل أن يكون كل في بيته».
    بالنسبة إلى أحمد عبد الله وأصدقائه، السهرة خارج الحي «هي عملية مكلفة جداً» لذلك يصار إلى التخلي عن هذا المشروع والبقاء في الحي حيث «التكلفة اقل»، والمكان الأنسب لسهرة مسلية «غير باهظة» هو محل التسلية الموجود في المنطقة، حيث يلعب الشبان«البلياردو» وألعاباً أخرى. ويقول حسن الزين «إن تكلفة السهرة في الحي لا تتجاوز 3000 آلاف ليرة، وهي مبلغ لا يكفي أجرة سرفيس إلى مكان سهر خارج الحي».

    إنها السياسة

    لا تخلو السهرات وأوقات التسلية في الحي من الخلافات، إذ تتنوع انتماءات شبابه، وهذا ما يؤثر على تلاقيهم في أوقات الأزمات السياسية في البلد. «في الماضي لم تكن الحدة تطبع علاقات الشباب بعضهم مع بعض، أما اليوم فعند حصول أي حادث في البلد يأخذ بعض الشباب موقفاً من البعض الآخر» يقول يرى ناجي حسن، لكن رفاق الطفولة يحوّلون مشاكل أهل السياسة وخلافاتهم إلى مصدر للتسلية والترفيه في لقاءاتهم عبر إلقاء النكات والتعليقات الساخرة من الواقع السياسي، وخاصة أثناء الجلسة عند أسامة وهو صاحب محل «النراجيل» الذي يجمع بين الشباب. لكن للسهرة شروطاً وقواعد، فممنوع مثلاً تناول أي شيء قبل الدفع سلفاً، أما الحديث في السياسة فليس ممنوعاً كما هي الحال في الكثير من المقاهي في بيروت «لأن اختلاف الشباب يؤدي إلى ابتعادهم عن هذه الأحاديث حكماً». في أثناء مباريات كرة القدم العالمية يضع أسامة تلفازاً يعمل على البطارية في «قهوته» حتى يتسنى للشباب مشاهدة المباريات في حالة التقنين.

    «الجاروفة» رزق وترفيه

    الجاروفة هي مصطلح من أدبيات حي «سان ميشال»، ينتشر بين الصيادين، وهو يعني باختصار «الصيد بالشباك»، لكن من البر حيث يصار إلى نشر شباك كبيرة في عرض البحر بواسطة مركب، ويُترك حبل على الشاطئ من جانبين وتبدأ بعد ذلك عملية شد الحبال من اجل إعادة الشباك إلى البر من مسافة تصل أحياناً إلى 200 متر داخل المياه. يشارك العديد من الشباب في هذه العملية، فمن يكن على الشاطئ في وقت الصيد لا يمكنه التهرب من صاحب الشباك. بعضهم يرى «الجاروفة» مصدر رزق وعمل، مثل محمد الصبوري. وبالنسبة للآخرين هي رياضة وتحدّ، فعملية الشد تتطلب قوة تحمّل وطاقة قوية كما يوضح محمد مرعي «لا علاقة لذلك بالحجم والطول» كل الذين يعملون في الجاروفة يتشاركون مصطلح «هيدي رزقه» وهو التبرير الذي يُعتمد إذا جاءت الشباك خالية من السمك.
    الأوقات والمواسم في هذه المنطقة متشابهة، تبدو الأيام وكأنها نسخ تكرر بعضها، والشيء الوحيد الذي يتغير هو هجرة بعض الشبان أو انتقالهم إلى منطقة أخرى، إلا أنهم يبقون مادة أحاديث الأصدقاء وذكرياتهم، ويؤكد بعضهم أن «مغادرة» هي الخطوة الصحيحة من أجل مستقبل أفضل، فيما يجزم آخرون «بأن هذا الحي نعمة لن نعرفها إلا عندما نتركها».

    أوجه الاختلاف

    تتشابه الضواحي والأحياء الفقيرة وأحزمة البؤس التي تحضن الهاربين من فقر الأرياف بحثاً عن فرص عمل ولقمة العيش في بيروت، هذا هو الاعتقاد السائد بين سكان الأحياء الأخرى، لكنه اعتقاد خاطئ، فقد تكثفت الانقسامات الطائفية والطبقية بين أبناء الشعب اللبناني، ما جعل الأمتار التي تفصل بين بعض الأحياء تبدو كالمحيطات للسكان. أبناء الأحياء الراقية لا يعرفون شيئاً عن تفاصيل حياة أولئك الذين يعيشون على «الضفة» الأخرى في مناطق فقيرة.
    لكن أحياء الفقراء ليست متطابقة، لكل منطقة خصوصيات صنعها سكانها المتجاورون منذ عشرات السنوات، لذلك «الترفيه» في الجناح لا يشبه الوسائل التي يخترعها أبناء حي السلم والرمل العالي أو الضبية والآخرون.
    البحر الذي لا يبعد إلاّ أمتاراً عن منطقة الجناح يفتح ذراعيه لأبنائها، فيما تعج المنتجعات السياحية بالقادرين على دفع «تكاليف الترفيه» فيها، أما عند حافة البحر قرب «سان ميشال» فالبحر ـــــ وليد الطبيعة ـــــ لا يبخل بفسحة للباحثين عن «متنفس» من البيوت المتلاصقة والأزقة الضيقة، والأحياء التي تجعل التطلع إلى الأفق البعيد أمراً شبه مستحيل.




    جلسة أسبوعية مع Formula 1

    يسكن احمد عياش في حي «سان ميشال» لكنه في معظم الوقت يبقى بعيداً عن أجواء السهر والبحر، فهو يعمل طوال الأسبوع خارج المنطقة، وفي أيام العطلة الأسبوعية يمضي وقته في هوايته المفضلة مع الشباب وهي مشاهدة سباق السيارات السريعة، الهواية التي يشاركه فيها مجموع من الرفاق الذين يتحزبون كل إلى سائق وإلى فريق من فرق السيارات العالمية، وبعضهم يرفع أعلامها فوق منزله كما يفعل احمد حويلا الذي يرفع علم «مرسيدس» الألمانية، وبلال مصطفى الذي يرفع علم شركة «فيراري» الإيطالية على شرفة
    منزلهمايكل شوماخر الذي اعتزل السباق أخيراً، ما زال البطل الذي يعشقه كثيرون في حي «سان ميشال»، وبعد اعتزاله، يجد الشبان صعوبة في اختيار بديل له، السائقون الجدد لم يسكنوا بعد قلوب الملايين حول العالم، ولكن البريطاني لويس هاميلتون بدأ يلفت الأنظار إليه.
    يتفق الشباب في كل أسبوع على مشاهدة السباق فيما بعضهم يدخنون «النارجيلة». أما في حال عدم وجود الكهرباء فالخيار يكون بالتوجه عند احمد الذي يملك مولداً كهربائياً، لكن شرط أن يتقاسم الشباب ثمن بنزين السيارة التي تقلهم.
    في كثير من الأحيان يضحّون بالبحر إذا كان السباق في وقت النزول إلى الشاطئ. «فالسباق يجري مرة في الأسبوع».
    يدّعي محمد «انه يقود أفضل من أحد السائقين الأبطال» وذلك من اجل إثارة أعصاب مشجعي هذا السائق، فالفرحة بالنسبة له لا تكتمل فقط بفوز من يشجع بل تتعداها إلى التهكم من الخاسرين و«سيارتهم الفاشلة».
    حين ينتهي السباق تبدأ احتفالات مؤيدي السائق والفريق الفائز، فيما يكتفي مشجعو الفرق الأخرى بالصمت أو بالتذكير بأن البطولة لم تنته و«العبرة في النهاية».