شمع – آمال خليلبيروت – جوان فرشخ بجالي

حظي مقام «النبي شمعون الصفا» بتمويل لإعادة ترميمه ضمن البرنامج القطري لإعادة بناء المواقع الدينية المتضررة. لكن حاضنته قلعة شمع، التي انهارت معظم أركانها خلال الحرب، لا تزال تنتظر عطف أي دولة مانحة أو منظمة عالمية لإعادة بنائها أو ترميمها علماً أن اتفاقية لاهاي (1954) لحماية الإرث الثقافي خلال النزاعات المسلحة، والتي وقّع عليها كل من لبنان وإسرائيل، تتيح مقاضاة إسرائيل أمام المحاكم الدولية وإجبارها على دفع تكاليف إعادة الترميم كاملة


أدخلت حرب تموز الأخيرة قلعة شمع في حقبة تاريخية جديدة، فقد أحال القصف المدمر الذي تعرّضت له معظم أجزائها إلى ركام، ومحا معالمها العمرانية في الجزء الشمالي منها. ها هي اليوم تقف «أطلالاً» على إحدى تلال بلدة المطلّة الكاشفة على صور شمالاً وفلسطين جنوباً تنتظر عطف إحدى الجهات الواهبة لإعادة ترميمها. فالقصف دمّر برجها الأساسي وأسوارها الخارجية للجهة الشمالية، أما الحصن الذي شيّد في داخلها، وكان مقرّاً لحكامها، فقد أحدث مكانه حفرة بعمق 17 متراً. كذلك اختلط ركام كلّ تلك الأبنية بعضها بالبعض الآخر، ولا تزال أكوام الحجارة الكلسية البيضاء مكدّسة فوق بعضها، تماماً كما كانت في آب الماضي بعد أن انتهت المعارك في انتظار تمويل دولي للترميم وإعادة الإعمار.
يعود تاريخ القلعة إلى القرن الثاني عشر الميلادي حين بناها الصليبيون موقعاً محصناً يشرف على طريق القدس. وفي القرن الثالث عشر احتلّها المماليك ولم يعد لها مكانة عسكرية مهمة فغرقت في النسيان حتى القرن الثامن عشر حين أصبحت من أملاك آل الصغير، حكام جبل عامل الذين أعادوا استعمالها موقعاً عسكرياً وسكنياً. وخضعت القلعة لعملية «ترميم» جذرية بحيث صارت معظم أجزائها ظاهرة للعيان.
داخل اسوار قلعة شمع، كانت الأبنية مقسمة إلى أربعة أجزاء متباينة عن بعضها: الحصن، المعصرة، القرية ومقام النبي «شمعون الصفا» الذي أعطى اسمه للموقع الأثري. وكان «الحصن» هو المكان الأكثر جاذبية بالنسبة لزائري القلعة، فأقبيته التي تمتدّ عدة أمتار كانت تضفي على المبنى جمالاً هندسياً، خصوصاً أنه (الحصن) كان يتألف من ثلاث طبقات يستعمل السفلي منها اسطبلاً والثاني مخزناً للمؤن، أما الثالث فكان للسكن.
ويحمل هذا المبنى تسمية الحصن لأنه مبني داخل أسوار المدينة وفي الجهة الأكثر استراتيجية: الجزء الشمالي الذي يشرف على السهل المحيط بمدينة صور وعلى الطريق الساحلية المؤدية الى فلسطين. وموقع القلعة الاستراتيجي كان السبب في اتخاذها موقعاً عسكرياً من الإسرائيليين منذ اجتياحهم الأول للجنوب في عام 1978، حيث عملوا منذ ذلك الحين على تشويه بنائها. في عام 1990 أزالوا البوابة الرئيسية للقلعة لتسهيل دخول آلياتهم العسكرية إليها بالاضافة إلى تعرضها الدائم للقصف من المقاومين والقصف المدفعي المضاد لهم الذي كان يهزّ أركانها.
لكن القلعة بقيت متماسكة إلى حد ما لدى عودتها إلى عهدة المديرية العامة للآثار إثر التحرير في عام 2000 رغم التضعضع والإهمال الواضحين. ويقول علي بدوي، مسؤول المواقع الأثرية في منطقة صور «إن فريقاً من المديرية عَمل في ذلك الحين على إدراج القلعة في لائحة الجرد العام وإنشاء مخطط حماية للموقع. فوُضع رسم طوبوغرافي وأخذت صور جوية، لكن لم تُنجز أي خرائط تفصيلية أو توثيق هندسي متكامل للبناء. فلا يُعرف مثلاً بالتحديد علو الجدران الخارجية أو الداخلية، الأمر الذي يحوّل عملية الترميم الضرورية للموقع إلى نوع من «التكهن الهندسي» المدروس.
وعلى سبيل التكهن، جاءت عملية ترميم مقام شمعون الصفا التي تكفل بها «البرنامج القطري لبناء دور العبادة» بناء على «توافق» بين مجموعة صور تظهر التفاصيل العمرانية للمقام قبل القصف، ومسح هندسي شامل للمبنى الديني نفّذه طالبان إيطاليان من جامعة فلورنسا تعبيراً عن تضامنهما مع لبنان. هكذا أعيد بناء المئذنة، التي كان القصف المباشر قد أغرقها عدة أمتار في الأرض، وهي من الحجر الكلسي الأبيض الذي يتماشى شكلاً وهندسةً مع أبنية المقام التاريخية. كذلك رممت القبب وسقف المقام ودُعّمت، وأعيد إبراز النقوش التي تشير إلى أن المبنى جدّد في فترة الحكم الفاطمي على جدرانه. لم يعد المقام اليوم يحمل أياً من «علامات» الدمار، وهو الآن يستقبل زواره الذين يتوافدون من مختلف قرى الجنوب. فبحسب الرواية الشعبية، النبي شمع، المعروف لدى سكان المنطقة باسم شمعون الصفا، هو رسول السيد المسيح «سيمون» أو سمعان الذي توفي في هذه المنطقة في القرن الأول الميلادي.
وإذا كان المقام قد حظي بتبنٍّ سريع بعد العدوان وبدأت الأعمال فيه في شهر تشرين الأول الفائت، ويشهد الآن عودة لزوّاره، فإن القلعة لم تشهد حتى الآن أي عملية إعادة بناء أو ترميم بالرغم من أن لبنان قدم ملفّها خلال مؤتمر الدول المانحة الذي عقد في استوكهولم في السنة الماضية. لكن، وبحسب وزير الثقافة طارق متري، «لم تبد تلك الدول (وهي التي تختار المشاريع التي تريد دعمها) أي اهتمام بترميم القلعة، ولم يؤمن أي مبلغ». ويؤكد علي بدوي «أن المديرية العامة للآثار حاولت عرض مشروع الترميم هذا على جهات مموّلة مختلفة وعلى منظمات عالمية، إلا أنها لم تتلق جواباً بهذا الشأن رغم محاولات الترويج التي تقوم بها. وقلعة شمع تواجه اليوم خطر الزوال الكامل، وهي الموقع الأثري الوحيد الذي تعرض لعملية تدمير واسعة الإطار وتصل كلفة إعادة إعمار الأجزاء المتهدمة وترميم الأخرى وتدعيمها الى ما يقارب الخمسمئة الف دولار أميركي فقط». فلم يستحيل تأمين هذا المبلغ؟
الجدير بالذكر أنه، وبحسب اتفاقية لاهاي 1954 لحماية الإرث الثقافي خلال النزاعات المسلحة والتي وقّع عليها كل من لبنان وإسرائيل، فهذا الموقع المدرج على لائحة الجرد العام «محمي» بحسب اتفاقية اليونسكو تلك. لذا فيمكن مقاضاة إسرائيل أمام المحاكم الدولية وإجبارها على دفع تكاليف إعادة الترميم كاملة. لكن إعداد هذا الملف لبنانياً ودولياً يجب أن يجري داخل أروقة وزارة الثقافة وتطرحه دولياً وزارة الخارجية... لكن، الى أي مدى يهتم السياسيون في هذا الوطن بمشاكل الآثار والتراث، خصوصاً إذا طرحت على الصعيد الدولي؟