strong>مهى زراقط
تختفي شجرة الفلّ الأبيض في أحد الأحواض الزراعية الكثيرة أمام منزل الحاج سامي مسلماني في خلدة بحيث لا يمكن الزائر أن يراها. لكنّ صاحب البيت لا يفوته أن يقدم زرّاً من أزرارها للضيف القادم للسؤال عن ولديه الشهيدين حسن وعلي.
هي لمسة إنسانية لطيفة، تأتي لتعزّز صورة الشخصية التي قدّمها أبو حسن عن نفسه وعائلته بتواضع كاد أن يكون مبالغاً فيه... كيف لا ونحن نتحدّث عن عائلة خاض ثلاثة من أفرادها مواجهات بطولية على محور الجبين ـــــ شيحين ـــــ طير حرفا؟
الوالد وابناه توجهوا إلى أرض المعركة. رابطوا في بلدتهم الجبين، قاوموا واستشهد الشابان فيما لم يحظ الوالد «حتى بشرف الإصابة» حسبما يعبّر لدى سؤاله إن كانت أصابع يده اليسرى مبتورة نتيجة إصابة في الحرب الأخيرةفي الصالون الذي تستقبلنا فيه العائلة، ثلاث صور للشهيدين زيّنت الجدران والزوايا، وتحتفظ الوالدة بكيس فيه الكثير من الصور الأخرى، منها واحدة لحسن طفلاً وهو يرتدي ثياب الجيش فـ«منذ صغره كان يحب المقاومة». معلومة غير مفاجئة، فنحن نتحدّث عن طفل لبناني، جنوبي، والأهم أنه ولد فيما كان والده يخوض مواجهات مع العدوّ الاسرائيلي في جنوب لبنانفي ذلك الوقت لم يستشهد الحاج أبو حسن، «بعد 25 سنة قدّمت شهيدين، هذه هي حكمة الله» يقول برضى تام لأن «هذه ثقافتنا، ثقافة كربلاء والإمام الحسين. ثقافة رفع الظلم والوقوف إلى جانب الحق». وهذا يعني أن يكون الإنسان صادقاً في ما يقوله ويفعله. «طبعاً لا أخبّئ أولادي، ولا أعارض أن ينتسبوا إلى المقاومة، أنا ربيتهم لكي يختاروا هذه الطريق» يقول مجيباً عن سؤال عن سبب التحاق ثلاثة من عائلة واحدة بالجبهة. مؤكداً أن هذا السؤال لم يكن مطروحاً في البيت «ولم نكن وحدنا من فعل ذلك، في بلدتنا عائلة من خمسة أشخاص التحقوا كلّهم بالمعركة».
ما كان مطروحاً، منذ اللحظة الأولى لوقوع عملية الأسر، كيفية الانتقال إلى الجنوب. علي كان في عمله، اتصل حسن (24 عاماً)، الموظف في ثانوية الكوثر، بوالده وطلب منه أن يكون جاهزاً لأنهسيمرّ لاصطحابه إلى الجنوب مثلما وردت التعليمات، وفي اليوم الثاني "لحق بنا الشهيد علي (22 عاماً)».
«الوالدة لم تعارض، فهي معتادة على الأمر منذ اختارت الزواج من مقاوم، بل أدّت دوراً تكاملياً من خلال مساعدتها النازحين و«الإخوة» الذين بقوا في المنطقة، فلكلّ واحد له دوره في هذه الحياة».
22 يوماً في الجبين قضاها المقاومون في كرّ وفرّ مع العدوّ الذي كان يحاول التقدّم عبر هذا المحور الاستراتيجي، وخسر عدداً كبيراً من جنوده. وكان أفراد العائلة يلتقون يومياً ويتحدثون. ويذكر الوالد حديثاً دار في أحد الأيام، إذ قال له ولداه: في المرة المقبلة أنت ستتقاعد ونحن سنحارب. «هما تقاعدا وأنا بقيت» يقول مبتسماً ابتسامة رضى، ثم يحدّث عن بعض يوميات المقاومة، ومنها اليوم الذي سمعوا فيه رسالة السيّد حسن نصر الله لهم «فثبّت أقدامنا»في 3 آب، أصيب أحد شباب المقاومة إصابة غير بليغة لكنها منعته من التحرّك. نقلوه إلى منزل إحدى العائلات الصامدة في القرية واتخذوا قراراً بمغادرتها.
في 6 آب وقعوا في كمين اسرائيلي، جرت على إثره مواجهة بينهم وبين الاسرائيليين. تفرّق المقاومون في مجموعات صغيرة، فكان الوالد وابنه حسن في مجموعة وانتقل علي إلى مكان آخر غير بعيد كثيراً لأنه كان في مرمى نظر الوالد.
يروي الحاج أبو حسن: «أصيب حسن وكان قربي. رحت أحكي معه محاولاً أن أسحبه من أرض المواجهة. قال لي انسحب أنت. وما هي إلا دقائق حتى فارق الحياة». يستخدم تعبيره الخاص «استردّ الله أمانته»، ويتابع: «استرجعت الله (أي ردّد الآية القرآنية: إنا لله وإنا إليه راجعون) وتذكرت ما قاله الإمام الحسين عندما استشهد ابنه علي الأكبر «لقد ارتحت من همّ الدنيا وغمّها وبقي همّها وغمّها لأبيك».
كانت المواجهة لا تزال قاسية، فأعطى الوالد بندقية حسن وجعبته لمقاوم آخر وانسحب كلّ منهما إلى موقع مختلف من دون أن يعرف ما حلّ بابنه علي، فوضع كل الاحتمالات محتفظاً بأمل ضئيل في أن يعود حياً.
بعد وقف إطلاق النار، كانت فترة انتظار عودة الشباب لكن لم يعد أحد. في اليوم الثالث نزل الحاج إلى الوادي حيث وقعت الاشتباكات. وجد جثتي المقاومين حسن وعباس عقيل إلى جانب جثة ابنه حسن «ربما أصيبا وزحفا ليبقيا معاً». بعدها توجه إلى آخر نقطة رأى فيها ابنه علي لحظة المواجهات فوجده وقد استشهد هناك: «اتصلنا بالإسعاف ونقلنا الشهداء».
ـــــ كيف أخبرت الحاجة؟
ـــــ بشّرناها، يجيب.
هي كانت تشكّ في الأمر لأنهم لم يتصلوا مباشرة بعد وقف النار. لكنها لم تتوقع أن يسقط شهيدان. عندما قال لها «كيف معنوياتك؟» شعرت بأن شيئاً ما حصل خصوصاً أنه كان قد تأخر في الاتصال رغم وقف إطلاق النار، قالت «في شهيد؟» فأجابها «اثنان».
«لماذا أخبرتها عبر الهاتف ولم تخبرها مواجهة عندما عدت؟
«لأن المسعفين كانوا قد نقلوا الجثث إلى بيروت».
خلال هذا الحديث، كانت الوالدة مستمعة معظم الوقت إلى رواية زوجها. آخر مرة تحدثت فيها مع أحدهم كانت في اليوم الخامس عشر للحرب «اتصل بي علي وسألته عن والده ولماذا لا يتصل؟ فأجابني ممازحاً: بكرا لما برجع بخبرك شو في ما في».
الوالدة من بلدة مارون الراس، مسلّمة بقضاء الله وقدره «نحن اخترنا هذه الطريق» تقول، وتؤكد أنها لم ولن تمنع أحداً من عائلتها عن السير في خط المقاومة «ابني حسن كان يطلب من والده أن يدرّب له طفله علي السجّاد» تقول.
ويؤكد أبو حسن، ردّاً على الأسئلة، أنه لم يفكر لحظة واحدة خلال المعركة بأن يحيّد ولديه عن الخطر «في أرض المعركة أنا عسكري مثلي مثلهم. كنا نتلقى أوامرنا من شاب في عمر أولادي».
هذا الثبات لا يعني أن العائلة لم تحزن على شابين استشهدا قبل أن يبلغ أي منهما الخامسة والعشرين، لكن: «هذه مشيئة الله، في اليوم نفسه الذي دفنّا فيه الشهيدين، كانت تجرى مراسم دفن شابين توفيا في حادث سير».
ومشيئة الله أن يمنّ على المقاومين بالنصر «ومن لا يعترف بهذا النصر فلأنه مهزوم في داخله» يقول الحاج محيياً الأمين العام لـ«حزب الله» الذي وعد ووفى.
«لكنه وفى لأنه كان يثق بكم؟»، «نعم، لكنه أيضاً قائد حكيم ومسدّد الخطوات».

أمراء أهل الجنة

«الشهداء أمراء أهل الجنة»، لا تحتاج هذه العبارة إلى التذكير بأنها تعود للنبي محمد لكي تزيد من قيمتها الرمزية في نفوس أهالي الشهداء وأقاربهم. هي ليست «حديثاً شريفاً» وحسب بالنسبة لهم، بل مسلّمة من المسلّمات التي تطمئنهم إلى مصير من رحلوا مظلومين، ومدافعين عن الحق في وجه الظلم.
هكذا يمكنك أن تفهم الطريقة التي يرتّب فيها الأهالي صور شهدائهم، خصوصاً العائلات التي أبيدت كلياً في المجازر المتنقلة. يبحثون في ملفاتهم عن صور الضحايا ويتوجهون بها إلى استديو التصوير لكي يجمعوها لهم في صورة واحدة تؤرّخ عبور هؤلاء الأشخاص في الحياة الدنيا.
في حضرة الاستشهاد، تصبح للصورة قيمة أكبر. يحملها من يحتفظ بها بطريقة مختلفة عن السابق، يعلّقها في صدر البيت، ويهتمّ بنقلها إلى العالم ليعرف ماذا فعل العدو بأحبتهم. لا تعود التفاصيل الصغيرة الواردة في الصور تفاصيل... الوالد الذي يحمل طفله على ظهره، أو الشابة التي ابتسمت للكاميرا التي ستخرج لها صورة تضعها على جواز سفرها... والوالدة التي يقبلها شابان من أولادها... كلّ هذه لم تعد لحظات عابرة في حياة من رحلوا. إنها حياتهم اليوم، وغداً عندما يكبر الصغار ويسمعون قصة الانتصار الذي خطّه الشهداء بدمائهم.
لعائلاتهم، من «الأخبار» اعتذار لعدم القدرة على نشر كلّ الصور التي جمعناها ممن التقيناهم، ومن لم نلتق بهم، لأسباب تقنية بحتة.