div style="padding:6px;border-style:outset">
دراسة
تعرض هذه الدراسة للتغييرات التي طرأت على بنية القوة الإسرائيلية ونظرية استخدامها في الفترة التي سبقت الحرب. كما تدرس التصورات التي تولدت عن هذه التغييرات والتي تم تبنيها في الحرب، وتعرض للنتائج غير المرضية التي أثمرت استخدام القوة، مع مناقشة التصورات البديلة، على فرض وجودها، التي كانت بتصرف إسرائيل بعد خطف الجنديين في الثاني عشر من تموز
كي نصل إلى طابع المعركة الذي كان يجب علينا تبنّيه إزاء خطف الجنديين في 12 تموز، علينا دراسة مفهوم بناء القوة واستخدامها لدى حزب الله، إضافة إلى التصوّر العسكري الذي اختاره.
لقد أقام حزب الله منظومتين متوازيتين:
الأولى: منظومة صاروخية منتشرة ومستقلّة ذاتياً (لا مركز فيها) وتعمل بشكل مباشر. مهمة هذه المنظومة أن تولّد، من جهة، ضغطاً على المؤسّسة الإسرائيلية وترغمها على العمل المباشر والفوري، بينما هي، من جهة أخرى، منظومة غير قابلة للإسكات، أو القمع، أو التدمير، بواسطة نار مضادة وفي فترة زمنية معقولة، بل فقط، من خلال احتلال الأرض والتدمير المنهجي لكل قاذف، ذلك أنها صواريخ قصيرة المدى.
الثانية: الجهاز المقاتل، الموزّع هو الآخر بشكل مستقلّ وبدون مركز عملي، ومكوّن من تحصينات، وقوات عصابات غير ظاهرة. والهدف من هذه المنظومة تحويل كل من مفهوم الأرض وتطهيرها أو البقاء فيها ونقل الإمداد إليها، إلى عمل مضنٍ ومنهك ومكلف جداً من الناحية البشرية.
سعت كلّ من هاتين المنظومتين إلى العمل بشكل غير ظاهر وإلى الامتناع الاستنسابي عن الاحتكاك بالقوات البرية، وجعل قوات جيش الدفاع تتجاوزها، لتواصل إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل، إضافة إلى شنّ عمليات حرب عصابات ضد الصفوف الخلفية من القوات.
بناءً عليه، كان من غير الممكن أن يرتكز أيّ تحرك لقوات إسرائيلية في العمق اللبناني على مفهوم السيطرة على المناطق وسط الامتناع عن دخول القرى والمحميات الطبيعية، بل كان يجب أن يكون مصحوباً بتطهير جذري للأرض.
لقد قَوْلب حزب الله المعركة بحيث أصبحت إسرائيل أمام خيارين نظريّين، كلّ منهما يكشف خاصرتها الضعيفة: الامتناع عن عملية برية والتعايش مع حساسية استهداف العمق الإسرائيلي، أو الدخول إلى لبنان والتعايش مع حساسية خسارة الجنود في استنزاف بري متواصل قبالة حرب عصابات. هذا الفخ الألمعي لحزب الله وضع إسرائيل أمام معضلة، أحلى الخيارات فيها مر.
كان يجب على إسرائيل قبل تبنّي أي تصور عسكري في 12 تموز، أن تأخذ بالحسبان مسألة بناء القوة ونظرية استخدامها لدى حزب الله، وخاصة أن طبيعة أي معركة مشتقة من هذين الأمرين.
من هذه الزاوية، كان أمام إسرائيل أربعة بدائل ينطوي كل منها على سلبيات جوهرية.
أ: الاكتفاء بردّ رمزي على هجوم حزب الله والتوقف عند هذا الحد، حتى لو لم يكن واضحاً أن عملية الخطف لم تُنسق مع إيران، ولم تكن ثمرة تقدير مسبق بأن الحرب ستسبّب إعاقة المعركة الدولية ضد إيران حول الموضوع النووي، أو ضد حزب الله حول مقتل الحريري والقرار 1559، إذ ليس من الحكمة أن تؤدّي حرب لبنان الثانية إلى إيجاد تغيير في الأجندة.
الموضوع الأساسي إذن هو موضوع إيران، ومنه تُشتق المعركة بين الغرب وإيران وسوريا حول الهيمنة على لبنان. أما المعركة بين إسرائيل وحزب الله فتأتي في المقام الثاني. من هنا، كان ممكناً انتظار استنفاد المسارات الأميركية ضد إيران ومقاتلة حزب الله في توقيت أكثر راحة، وبعد استعدادات مناسبة.
ب: التنازل عن الخروج إلى معركة شاملة ضد حزب الله، وتبني أهداف سياسية أكثر تواضعاً، والامتناع عن الوقوع في الفخ الذي نُصب في جنوب لبنان، وشن عملية جريئة تؤثر في الوعي وتخرج عن توقعات حزب الله، مثل عملية كبيرة في عمق لبنان في البقاع اللبناني.
ج: إذا أصرت إسرائيل، رغم كل شيء، على الدخول في مواجهة مباشرة وكاملة مع حزب الله، فإن عليها أن تعي أن خوض مواجهة كهذه ممكن فقط من خلال استبطان الإدراك للفخ الذي ينصبه حزب الله. وذلك يتطلب، أولاً، استخدام القوة بشكل كامل ومباشر لآ بشكل تدريجي، وثانياً، استخدامها في المناطق الداخلية مباشرة وعدم تحريكها بشكل كلاسيكي من الجنوب إلى الشمال. هذا البديل كان يجب أن يرتكز على استخدام الحد الأقصى من الاحتكاك والقوة العسكرية على أنواعها، في حد أدنى من الزمن.
هذا البديل يقتضي تجنيداً فورياً لقوات من الاحتياط بحجم كاف للدخول إلى عمق عشرات الكيلومترات وتطهيرها، على أن يكون هذا الدخول مفاجئاً ويتضمّن التفافاً على مناطق القتل القريبة من الحدود وتقدماً متواصلاً على طرق غير متوقعة.
ينبغي معرفة أن لهذا البديل سلبيتين: أولاً، ليس فيه استراتيجية خروج ناجحة، حيث إن البقاء في المنطقة سيؤدي إلى حصول تآكل في صفوف القوات، فيما من شأن الانسحاب منها أن يعيد الوضع إلى سابق عهده. ثانياً، إن ثمنه البشري مكلف جداً، لأن الطابع التوزيعي والاستقلالي لحزب الله تغيب عنه البؤرة العملية الحاسمة التي يقود ضربها إلى انهيار باقي المنظومة، ولا مناص من الدخول المنهجي في معارك وجهاً لوجه داخل كل حصن من تحصينات حزب الله.
الاستعداد للمستقبل
بغية الانتصار في الحرب المقبلة، يجب إجراء تحقيق فعلي في الحرب السابقة، وأن ننظر بأعين مفتوحة إلى الواقع بالطريقة التي تغير فيها للأسوأ بعد الحرب، والعمل فوراً على الإصلاح والاستعداد للحرب المقبلة. وإذا ما تمكن أحد من طمس الفشل، فسنكون قد فشلنا في أن نتعلم من التجربة وفشلنا أيضاً في تحسين وضعنا للمستقبل.
أولاً، يجب أن نحافظ على القدرة القتالية وفقاً للنظرية الحربية الكلاسيكية، بحيث إن بناء القوة ونظرية استخدامها، يجب أن يعود ويعكس توازناً مستمراً ما بين الأسلحة والأذرع داخل الجيش، وتوازناً ما بين النار والحركة والحماية. كما يجب أن نعود ونعطي الوزن المناسب للأرض، سواء في الدفاع أو في الهجوم.
لا شك في أن العالم يتغيّر، ومعه أيضاً بناء القوة العسكرية ونظرية استخدامها، لكن من الخطير اعتماد تغييرات دراماتيكية على أساس نظريات لم تثبت بعد.
الأمثلة على بناء القوة وفقاً لنظريات لم تثبت هي: النهج الأميركي في خمسينيات القرن العشرين الذي اعتبر أنه لم تعد هناك حاجة لجيش تقليدي قوي في عصر السلاح النووي. هذا النهج اتضح في ستينيات القرن الماضي أنه خاطئ.
النهج الأميركي القائل بأنه في عصر صواريخ جو ـــــ جو، لم يعد هناك مجال لتزويد الطائرات الحربية بمدافع رشاشة، أو تدريب الطيارين على معارك جوية قريبة، هو نهج سبّب سقوط مئات الطائرات في المعارك الجوية في فيتنام. أيضاً النهج الذي ساد لدى بعض الإسرائيليين بعد عام 1967، والقائل أنه في عصر معارك الحركة المدرعة لم تعد هناك حاجة لسلاح المشاة، كما أن سلاح الجو يمكنه أن يشكل مدفعية طائرة، تبدى أنه نهج خاطئ عام 1973.
من الخطير جداً، أيضاً، السماح لظروف مؤقتة أو مستقبلية، أو لتصورات ورؤى سياسية، بأن تحرفنا عند الضرورة العملياتية/ التخصصية، عن الاستعداد للسيناريو الأخطر من غيره، حسب تعبير «بن غوريون». ولكن لنفترض أن جهودنا السلمية ستنجح، وغالبية الدول العربية، أو حتى كلها، ستوقع معاهدات سلام وصداقة، حتى حينئذ سيبقى واجباً علينا الحذر من الوهم الخطير بأن السلام سيدوم. يجب أن يبقى الأمن على رأس أولوياتنا واهتماماتنا حتى بعد أن يوقع السلام بيننا وبين جيراننا وتصدّق عليه الأمم المتحدة.
لقد ارتكز المفهوم الأمني الإسرائيلي الكلاسيكي في الخمسينيات والستينيات على أسس تتعلق بـ«حدث الكل»، أي بناء الجيش للحسم حتى في أسوأ الحالات، وهو أن تجتمع الدول العربية معاً وتفاجئ إسرائيل في حرب شاملة، ولكن الاستعداد «لحدث الكل» يتطلب تخصيص موارد جبارة، وليس واضحاً أنه حتى في الوقت الذي كان فيه هذا المفهوم سياسة رسمية، قام صانعو القرارات بمتطلباته.
يجب على إسرائيل أن تكون مستعدة، على الأقل، لمواجهة كل أنواع المخاطر أو بعضها في آن واحد، ولا ينبغي الخلط ما بين السيناريو الذي يبدو في ظرف معيّن معقولاً أو غير معقول، وبين ضرورة أن نكون قادرين على مواجهة شتى أنواع التهديدات وكل قدرات الخصم المقدرة مهما كانت المعقولية المفترضة في الزمن المعطى للنوايا السياسية في استخدامها. فقدرات الخصم هي معطيات يبني نياته السياسية عليها ومن شأنها أن تتغير، كما أن الجهات المسؤولة عن إجراء التقدير قد تخطئ في فهمها.
وسط قوس التهديدات، يحتل حزب الله موقعاً، ولكن علينا أن ننظر أيضاً إلى ما وراء كتفه. فحزب الله هو جزء من ظاهرة لبنانية جذرية حقيقية، لكن جزءاً آخر منه يمثل مبعوثاً للنظام الإيراني والنظام السوري. لا شك في أن حزب الله هو أيضاً جزء من منظومة أوسع تديرها إيران ضد إسرائيل، وتشمل أيضاً مشروع الصواريخ والمشروع النووي، وبشكل أقل الإرهاب الفلسطيني أيضاً.
مع ذلك، على إسرائيل أن لا تقاتل إيران. لقد نجحت إيران في إيجاد صراع غير متكافئ مع إسرائيل: فهي أوجدت بواسطة رسلها حدوداً مشتركة مع إسرائيل، الأمر الذي تعلمته إيران من إسرائيل في كردستان العراق، ولكن ليست لإسرائيل حدود مشتركة مع إيران. يجب على إسرائيل أن تبذل الجهد والموارد في مواجهتها لإيران ضمن هذا الواقع من عدم التكافؤ، والسعي إلى توازن استراتيجي قبالة إيران في مجال القوة الصغيرة والمتوسطة.
وبنظرة أوسع، على إسرائيل أن تبلور استراتيجية شاملة ومبادرات تجاه إيران، وعدم الاكتفاء بدحرجة المشكلة على
الأميركيين.
إن المحافظة على القوة لمواجهة كل أنواع التهديدات المحتلمة تحتم أن يكون حجم القوة ونظرية استخدامها جاهزين لحرب شاملة مع سوريا، ولحرب مع حزب الله وعلى الجبهة الفلسطينية أيضاً. وذلك وسط وجود احتياط أركاني قوي لحالة تصعيد على جبهة أخرى وخلفه ردع تجاه إيران.
إذا فشل الردع، إذاً، يجب أن تكون هناك القدرة على تحقيق تفوق مطلق في تبادل الضربات مع إيران ـــــ وكما ذكرنا ـــــ إيجاد توازن في القوة المتدنية/ الوسطية تجاهها.
الوقت لغاية الحرب المقبلة قد يكون قصيراً، ولذا على إسرائيل أن تستعد لذلك بسرعة، وبشكل دؤوب وأكثر جدية، وسط زيادة في الموازنة الأمنية بمليارات الشواكل.
لقد كانت حرب لبنان الثانية إلى حد كبير «فيتنامنا»، وكما في فيتنام، حاولت إسرائيل هزيمة عصابات بالنار من دون استخدام مكثف للقوة، رغم أن استخدامها تدحرج لاحقاً.
العدو، في هذه الحرب، تمتع بعمق استراتيجي في دولة مجاورة لم تُهاجم، وجيش الدفاع من جانبه لم يحارب مثلما كان متوقعاً منه.
الأخبار السيئة من حرب لبنان الثانية هي أننا فشلنا. أما الأخبار الجيدة فهي أن قواتنا في الاحتياط وفي النظامي جيدة وشجاعة، ولكن جرى بناؤها واستخدامها بطريقة غير صحيحة. كما أن هناك أخباراً حسنة في أننا حصلنا على جرس الإيقاظ من الواقع، والآن هناك فرصة للتحقيق والتحسين.
الكاتب
رون طيرا
(باحث عسكري في شؤون سلاح الجو، شغل سابقاً منصباً رفيعاً في استخبارات سلاح الجو الإسرائيلي)
العنوان الأصلي
تكسير عظام اللافقريات
اجزاء ملف "بناء القوّة الإسرائيليّة والخلل في الأولويّات":
الجزء الأول |
الجزء الثاني |
الجزء الثالث