نقولا ناصيف
وحدها السجالات المحيطة بنتائج الانتخاب الفرعي في المتن تظل مستمرة، وسيدة الموقف، في غياب أي تحرّك محلي وعربي. ولا يزال طرفا النزاع، قوى 14 آذار والرئيس ميشال عون، يتجاذبان تأويل النتائج تلك، كما لو أن هذا التأويل هو هدف في ذاته. ولذا يتركز الاشتباك السياسي على تبرير كل منهما انتصاره في ما حدث الأحد، لا على مراجعة واقع ما كان قد حصل. ويريد أن يجعل من الانتخاب الفرعي جسراً إلى الاستحقاق الرئاسي، لا فصل أحدهما عن الآخر، لأن الأول لا يفضي إلى الثاني حكماً.
ورغم تصاعد حملة أركان بارزين في قوى 14 آذار على عون، وتحميل نتائج الانتخاب الفرعي أكبر مما حملته أرقامه، على أهمية دلالاته السياسية، بالقول تارة بانهيار شعبية الرجل نهائياً، والقول طوراً إن الاستحقاق الرئاسي بات في يد الغالبية التي ستختار رئيساً للجمهورية من صفوفها، فواقع الأمر أن ما يدلي به هؤلاء لا يعدو رفع سقف التفاوض وتعويض خسارة مقعد نيابي، أجري الانتخاب الفرعي، مع كل الالتباس الذي أحيط به، من أجل المحافظة عليه للغالبية، لا المناورة في سبيله.
إلا أن نتائج الانتخاب الفرعي تشير كذلك إلى:
1 ـــــ تجاوز بكركي وتجاهل إرادتها بالنسبة إلى عون والرئيس أمين الجميّل اللذين لم يتجاوبا مع مبادرتها بتفادي المواجهة الانتخابية، أو بالنسبة إلى نتائج الاقتراع الماروني الذي لم يلاقِ ما رغب فيه البطريرك مار نصر الله بطرس صفير وأطلقه في عظات ومواقف متعددة، وكذلك مجلس الأساقفة الموارنة، بالحضّ على الأخذ بالأعراف والتقاليد اللبنانية، وكان المقصود بذلك الاقتراع للجميّل. إلا أن نتائج التصويت، الماروني خصوصاً، لم تمكّن الرئيس السابق من الفوز بالمقعد، وإن رجّحت كفّته في حساب الشعبية المارونية. وأبرَزَ كذلك أن حجم الانقسام السياسي بات أكبر من الإصغاء إلى إرادة بكركي.
يعبّر ذلك عن مأزق يواجهه الزعماء الموارنة في الوقت الحاضر، من غير أن تتمكن المرجعية الأم من تحقيق تفاهمهم. ويعبّر أيضاً عن أن الرأي العام الماروني، في المتن، في أبسط الأحوال، راح ينشد الابتعاد عن الزعامة الوحيدة. لكن الأرقام بيّنت جانباً مهماً في الدلالات، يصحّ تسميته «الاقتراع العاطفي»، هو أن الغالبية الساحقة للمصوّتين للجميّل كانوا في «دائرة المأتم» استناداً إلى نسبهم المرتفعة في بكفيا والقرى المحيطة بها. وكلما ابتعد الاقتراع تدريجاً عن «دائرة المأتم» في قرى الوسط والجرد والساحل، تقاربت الأصوات بين الجميّل ومرشح عون.
2 ـــــ تولّد نزاع مفتوح ماروني ـــــ ماروني بين عون من جهة والجميّل وحلفائه الموارنة، وأخصّهم رئيس الهيئة التنفيذية سمير جعجع شريك المواجهة في الانتخاب الفرعي، من جهة أخرى. وكذلك نزاع ماروني ـــــ أرمني بدا أنه أكبر من سوء تفاهم سياسي وخلاف، إلى اتهامات متبادلة لم تخلُ من التجريح. وأكثر من أي وقت مضى، تلقّى حزب الطاشناق اتهامات من حزب حالفه في المتن وبيروت منذ عام 1960 على نحو يُخشى أن يقود إلى قطيعة لا تقتصر آثارها على حزبي الطاشناق والكتائب، أو على حزب الطاشناق والرئيس السابق، بل تشمل شارعيهما في المتن، تضع الفريقين، وخصوصاً الجميّل، في أي انتخابات مقبلة على المحك. لم تكن هذه المرة الأولى التي يُشتكى فيها من الصوت الأرمني في ترجيح مرشح على آخر. وباستثناء انتخابات 1992 التي خلت من منافسة جدية في المتن بسبب لائحة ائتلافية جمعت ميشال المر ونسيب لحود، رجّح الصوت الأرمني في انتخابات 1996 ثم في انتخابات 2000 فوز لائحة السلطة (وكان في عدادها رئيس حزب الكتائب منير الحاج الذي فشل) على لائحة المعارضة، وفي انتخابات 2005 رجّح لائحة عون على قوى 14 آذار. بل بات حزب الطاشناق يُنعت بما كان يقال عن رزم المجنّسين في السنوات المنصرمة. مع ذلك حصل الجميّل على 20 في المئة من أصوات الناخبين الأرمن، من غير أن يتبنى حزب الطاشناق ترشيحه، بل كان في مواجهته.
3 ـــــ لا يحتاج تأويل نتائج الانتخاب الفرعي في المتن إلى إفراط في التفسير، ولا يحتاج كذلك إلى مناورة متأخرة لإبراز أهداف مختلفة عن تلك التي خاضت من أجلها قوى 14 آذار المواجهة: كان هذا الهدف مزدوجاً. الحصول على المقعد الشاغر باستشهاد النائب والوزير بيار الجميّل لتأكيد انحسار زعامة عون في المتن وإضعافها، وتبرير عدم أهليته في السباق الرئاسي على أنه ـــــ كما كان يصف نفسه ـــــ الممثل الأقوى للمسيحيين. ولأن تحقيق هذا الهدف يوجب على قوى 14 آذار إقران إضعاف عون بالحصول على المقعد الشاغر، أي ربط الحساب السياسي بحساب الأرقام، أتت النتيجة معاكسة تماماً: لم يكن فوز عون كبيراً، ولا خسارة الجميّل جسيمة. وإذا كان في وسع قوى 14 آذار أن تجهر بنجاحها في إظهار ضعف عون مارونياً، فواقع الأمر أن الرجل انتزع من خصومه مقعداً لم يكن لكتلته النيابية، وزاد للمرة الثانية في تقليص عدد النواب الموارنة في قوى 14 آذار، وأظهر أنه لا يزال أقوى الزعماء الموارنة والمسيحيين، إما لترؤسه كتلة من 21 نائباً مسيحياً من أعضائها الـ23، أو لأنه الزعيم المسيحي الأوسع انتشاراً على نطاق القاعدة الناخبة المسيحية.
4 ـــــ فاز عون في الانتخاب الفرعي في المتن بالطريقة نفسها التي ربحت قوى 14 آذار نوابها الـ10 في بعبدا، أي أصوات الناخبين الشيعة لا أصوات ناخبي هذه القوى، ولا مسيحييها خصوصاً. ربحت المقاعد تلك بفضل التحالف الرباعي مع الرئيس نبيه بري وحزب الله. وكذلك تقدّم مرشح عون على الجميّل بفوارق قليلة في الأصوات، يمكن أن تُعزى إلى الرزمة الأرمنية في الساحل، أو إلى الأصوات الشيعية في الساحل أيضاً، أو إلى أصوات الحزب السوري القومي الاجتماعي في الجرد. وفي حصيلة هذا التقويم حصد الجميّل من الأصوات المارونية الصرف 58.59 في المئة في مقابل 40.71 في المئة لمرشح عون، بمعزل عن صناديق المختلف مسيحياً التي ضمّت ناخبين موارنة مع آخرين سريان وكلدان، وصناديق المختلف طائفياً التي ضمن ناخبين سنّة وشيعة ودروزاً.