div style="padding:6px;border-style:outset">
دراسة
نُشر التقرير المرحلي للجنة فينوغراد في 30 نيسان 2007، وقد تحدّث عن إخفاقات في إدارة دولة إسرائيل في كلّ من القيادتين السياسية والعسكرية. ينبع جزء من الإخفاقات من إدارة غير ناجعة للمعارك، فيما ينبع جزء آخر، تتطرّق إليه هذه المقالة، من تصوّر عام وتقديرات وضع خاطئة. وفقاً لرأي كتّاب التقرير، جعلت هذه الإخفاقات دولة إسرائيل، لأول مرّة في تاريخها، تنهي حرباً من دون أن يتم فيها إحراز نصر عسكري واضح
تقرّ لجنة فينوغراد بأن «الخط الموجّه عملياً لسياسة اسرائيل إزاء حزب الله كان ضبط النفس وكبح الجماح، حتى في الحالات التي كان يشن فيها حزب الله هجمات عدائية». هذه السياسة، التي تخالف تصورات الأمن في دولة اسرائيل منذ إقامتها، سادت في الواقع كل تلك الفترة بوتائر مختلفة.
بعد الانسحاب بنحو خمسة أشهر، في السابع من تشرين الأول 2000، اختطف ثلاثة من جنود الجيش الاسرائيلي في منطقة مزارع شبعا. كان ذلك العمل تحدياً ظاهراً لإسرائيل وللجيش الاسرائيلي. وعلى رغم الانسحاب من جانب واحد الى الحدود الدولية، وعلى رغم التهديدات الصارمة بردود شديدة في حال التعرض لإسرائيل ومواطنيها وجنودها، لم يرتدع حزب الله، ولم يطلق النار فقط، بل تغلغل الى اسرائيل وقام بانتهاك شديد لسيادتها واختطف جنودها. وعلى الرغم من ذلك، قررت اسرائيل أن ترد رداً عينياً ومحدوداً. كان الجيش الاسرائيلي حذراً من اجتياز الحدود واكتفى ببضع هجمات جوية. كان ذلك عملياً بداية سياسة ضبط النفس والاحتواء التي استمرت أيضاً في أعقاب العملية التالية.
طلب الجيش الرد وفق ما خُطّط له وما دُرّب عليه، وأُعلن عشية الانسحاب، إضافة إلى ما تقتضيه خطورة العملية، لكنه تلقى بخضوع، كما تقتضي البنية الدستورية لدولة اسرائيل، توجيهات المستوى السياسي، بل إن المجلس الوزاري المصغر رفض اقتراح موفاز، الذي كان رئيس الأركان آنذاك، باللجوء إلى رد محدود. كانت الرسالة التي نُقلت الى الجيش واضحة، وهي أن الردود من الآن فصاعداً ستكون محسوبة وأن دولة اسرائيل لن تتورط من جديد في الوحل اللبناني. استمر تحرش حزب الله بعد ذلك، بل ازداد تطرفاً. في الواحد والعشرين من تشرين الثاني 2005 حصلت محاولة اختطاف جنود مع إطلاق نار كثيف من قبل حزب الله على كريات شمونة والمطلة ونهاريا.
أوجبت سياسة ضبط النفس، بمعزل عن أنها كانت ترتكز على اعتبارات وازنة، على الجيش الاسرائيلي «ثورةً في التفكير»، ليست المرة الأولى في تاريخه. تحول الجيش في قيادة المنطقة الشمالية من قوة مبادرة ومهاجمة تعمل على نقل ميدان القتال الى أرض العدو، الى مدافع عن نفسه معتصم بالخنادق، هدفه المعلن مضاءلة نقاط الاحتكاك واحتواء تحرشات حزب الله والعمل على منع حصول عمليات معادية بالاعتماد على عنصر الدفاع بشكل أساسي. وقد اعتبر قائد المنطقة الشمالية سابقاً، أودي آدم، أن التفسير العملي لسياسة الاحتواء التي انتُهجت في الشمال «كان التخلي عن السيادة الاسرائيلية على الحدود الشمالية، وإعطاء حزب الله يداً حرة على الخط الحدودي».
وأشار تقرير لجنة فينوغراد إلى أن الجيش الإسرائيلي ضاءل طوعاً، في نطاق سياسة الاحتواء، نشاط الدوريات على طول الحدود، ونقل قواعده الى خط خلفي، وبنى شوارع ملتفة وحظر على السيارات العسكرية والمواطنين السير قرب الحدود (في المنطقة الواقعة تحت سيادة اسرائيل على حسب خط الحدود الدولية). وأُلغيت مواقع المراقبة الأمامية واحتلت محلها وسائل مراقبة إلكترونية، بل غُيّرت في النهاية أوامر إطلاق النار وحُددت صلاحيات الجنود في موضوع الرد على أعمال معادية من وراء الحدود. وإن كان باراك شدد في أعقاب عملية الخطف على أن اسرائيل تحتفظ لنفسها بحق الرد في الوقت الذي يلائمها، فإن هذا التهديد بقي فارغاً من المضمون. كتب الصحافي زئيف شيف في هذا السياق ما يلي: ألم تخطئ اسرائيل خطأ شديداً عندما لم تردّ بالقوة على تشييد البنية العسكرية لحزب الله وإيران وسوريا في محاذاة حدودها؟ في غضون سنوات نشأ هناك نظام خطير اقتضى ضربة رادعة مبكرة. إن الامتناع عن ضربة كهذه أفضى آخر الأمر الى حرب، بل إن اسرائيل امتنعت حتى عن التلميح لأعدائها بأنها لن تمر مرور الكرام على بناء هذا النظام المهدد. وكذلك لم تتعرض لعمليات نقل السلاح الإيراني الى دمشق، على رغم أن الأميركيين لمّحوا إلى أنهم سيتعاملون مع هذا الأمر بتفهّم، ولا للقوافل التي نقلت الصواريخ الى لبنان، ولا لمخازن السلاح التي كان يملكها حزب الله، ولا حتى للصواريخ القصيرة المدى قرب الحدود. في الحقيقة، أعدّت إسرائيل نفسها كما ينبغي للصواريخ البعيدة المدى، وقامت ببعض العمليات الموضعية المؤلمة أيضاً، إلا أن ذلك لم يؤثر في النظام الناشئ. وكانت النتيجة أن الردع الاسرائيلي في هذه الفترة لكل من حزب الله وإيران أصيب بالوهن.
كان الافتراض الخفي وراء هذه التصورات أن ضبط النفس وكبح جماح اسرائيل سيقودان الى ضبط النفس وكبح الجماح عند حزب الله أيضاً. تبين أن هذا الافتراض كان خاطئاً. وأشارت لجنة فينوغراد في الحقيقة إلى أن «خروج الجيش الاسرائيلي من لبنان لم يجعل حزب الله يُغيّر تصوره الأساسي (استمرار محاربة اسرائيل). وعلى رغم بعض التآكل الذي أصاب شرعية استمرارها في محاربة اسرائيل، رفضت المنظمة، لاعتبارات لبنانية داخلية أيضاً، نزع سلاحها ووقف الكفاح المسلح ضد اسرائيل». أراد حزب الله، وفقاً لهذا التصور، أن يحافظ على مستوى محدود من المواجهة مع اسرائيل، ولم يقتضِ ذلك من وجهة نظره انزلاقاً الى مواجهة عامة كما حدث بالفعل في تموز 2006.
لكن في بداية الطريق لم تركن اسرائيل فقط إلى تصور الاحتواء بل أعدت خططاً تتعلق بـ«روافع تأثير» على حزب الله لكي يَعدُل عن نشاطه المعادي لإسرائيل. ومن بين روافع التأثير هذه، كما تفيد لجنة فينوغراد، «مهاجمة أهداف سورية في لبنان، ومهاجمة مواقع بنى تحتية لبنانية وغير ذلك». كان الافتراض الحقيقي في رأينا أن «استعمال روافع التأثير هذه وقت الحاجة سيضبط حزب الله ويؤدي الى مضاءلة هجماته ضد اسرائيل». لكن، في الواقع، لم يُستعمل أي من روافع التأثير هذه تقريباً مدى الأعوام التي تلت الانسحاب. وإن حصل ذلك فإنه كان بمقادير قليلة ولم يكن
فعالاً.
القيود السياسية التي تشير اللجنة إليها، سياسة الاحتواء والرغبة في الهدوء في الشمال، أُوحي بها الى الجيش، ولم تؤثر بدورها في أنماط رده فقط، بل في طريقة استعداده أيضاً. فمنذ بداية سنة 2002 حلّت قوات الاحتياط محل الجنود النظاميين في المنطقة الشمالية (على رغم أن العادة جرت على أن تكون القوات المنتشرة على الخط الحدودي قوات نظامية)، وهكذا رسخ في الجيش أيضاً الرأي القائل إن اللهب يبقى منخفضاً ما دمنا نضبط أنفسنا.
وقد كشفت لجنة فينوغراد أنه في تشرين الثاني 2005، قبل حادثة الهجوم في الغجر بثلاثة أيام، (في الحادي والعشرين من تشرين الثاني 2005)، نقلت الاستخبارات معطيات عن نية حزب الله مهاجمة جنود الجيش الاسرائيلي على طول الحدود. في هذا الإطار شُخّصت خلايا تابعة لحزب الله بشكل قاطع، لكن على الرغم من ذلك لم يتم الحصول على إذن بالقضاء عليها بنيران دقيقة.
كان أحد أشد الانعكاسات لسياسة الاحتواء مضاءلة موازنة الأمن. بدأت الحكومة تؤمن بسني الهدوء والنماء الاقتصادي في الشمال واقتطعت من موازنة الجيش، وطالت هذه الاقتطاعات المنطقة الشمالية على وجه خاص. وهكذا أُغلقت مواقع أمامية لاعتبارات مالية تتعلق بالموازنة وقُلّصت القوات ووُجهت الى المنطقة وحدات أقل خبرة، بل إن اللجنة تذكر خطة قائد فرقة الجليل، غال هيرش، لجعل الاحتواء في الشمال خطة دفاعية منظمة، أي إلباس سياسة اسرائيل مفاهيم الحرب الكلاسيكية. إلا أن الخطة لم تُثبت نفسها، ومن جملة أسباب ذلك أنها كانت ترتكز على التشدد في التدريبات، فيما كان يصعب تدريب رجال احتياط يأتون للخدمة لمدة ثلاثة أسابيع فقط، ناهيك عن ضآلة الموازنة.
نرى أن اللجنة تصوغ عباراتها عن سياسة ضبط النفس/الاحتواء بطريقة معتدلة جداً وغير قاطعة. لكن على رغم نقاط التفهم التي ذُكرت آنفاً، كانت مقاربة اللجنة لهذه السياسة نقديةً، وإن بالمقدار غير الملائم برأينا. يمكن أن نفهم تحفظات اللجنة عن إبداء آراء جازمة على أنها رغبة في عدم إظهار «حكمة ما بعد الفعل» والتحسب من التعرض للسلطة الممنوحة لمتخذي القرارات في نظام ديموقراطي بأن يتخذوا قرارات وفقاً لتصورهم العام.
لم تُعبّر سياسة ضبط النفس فقط عن وجهة تتعلق بسياسة اسرائيل في مقابل حزب الله والأضرار النابعة من قدرات المنظمة ونظام علاقاتها بكل من سوريا وإيران. يبدو أن الحديث عن «تصور عام» خاطئ رسخ عند القيادة الاسرائيلية. وفي مقارنة سياسة احتواء اسرائيل في الحدود الشمالية مع السياسة الحالية في قطاع غزة يمكن أن نجد خطوط تشابه كثيرة: أ ـــــ في المنطقتين أخلت اسرائيل الأرض بانسحاب من طرف واحد لا باتفاق مع ذوي السيطرة على الأرض، ب ـــــ في المنطقتين أعلنت اسرائيل سياسة رد صارم في حال حصول تحرشات، ج ـــــ في المنطقتين اختارت اسرائيل في لحظة الامتحان أن تنتهج سياسة الرد الموزون، وهي أقرب ما تكون من سياسة ضبط النفس. وهكذا نرى اليوم أن إطلاق صواريخ القسام على النقب الغربي تحول إلى عمل رتيب. وتتواصل محاولات اختطاف جنود من الجيش الاسرائيلي، بعدما اختُطف الجندي جلعاد شليط.
يتبين إذاً أن اسرائيل في قطاع غزة كما كان الأمر في لبنان قبل الحرب، توحي برسالة احتواء وضبط نفس وترى هذه السياسة جزءاً من قواعد اللعب «المقبولة» بينها وبين المنظمات الفلسطينية. لا توافق هذه السياسة تصريحات القيادة في اسرائيل بعد الانفصال بأن كل تحرش بإسرائيل سيُجابه برد شديد «يُشعل القطاع».
يجب على دولة اسرائيل أن تستوعب جيداً أن صدق تهديداتها عنصر مركزي في صياغة قدرتها على الردع. إن عدم قدرتها أو عدم استعدادها لتحقيق التهديدات التي صدرت عن أعلى المستويات، يوحي بالضرورة بالضعف ويمس قدرة الردع. إذا كانت قدرة اسرائيل على الردع عزيزة عليها، فإنه يفضل أن تمتنع عن تهديدات قاطعة لا تنوي تحقيقها أو لا تستطيع.
يجب أن نأمل أن يُعجّل تقرير لجنة فينوغراد النهائي استخلاص الدروس في كل ما يتعلق بسياسة الاحتواء وضبط النفس التي انتهجتها حكومات اسرائيل منذ الانسحاب من لبنان والتي نعترض عليها في هذه المقالة، ومن جملة ذلك السعي الحثيث لحزب الله ليُعيد لنفسه قدراته التي كانت قبل الحرب ويستعد من جديد على خط الحدود مع اسرائيل، إضافة إلى التهديدات الاستراتيجية الخطيرة التي تواجهها دولة اسرائيل في الجبهة الفلسطينية أيضاً.
المصدر
العدد الأول من «التقدير الاستراتيجي» الصادر عن معهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة حيفا، حزيران 2007
العنوان الأصلي
إخفاق التصوّر في الطريق الى حرب لبنان
الكاتب:
زاخي شالوم
ويوعز هندل (معهد أبحاث الأمن القومي)
اجزاء ملف "إخفاقات في الطريق إلى لبنان":
الجزء الأول |
الجزء الثاني