جان عزيز
مرة واحدة في تاريخ لبنان، طُرح صراحةً مشروع لقانون الانتخابات، يقضي بأن ينتخب كل نائب الناخبون المنتمون الى مذهبه حصراً من دون سواهم، في الدائرة التي تضم مقعده. ولم يكن صاحب هذا الاقتراح غير الراحل إدمون نعيم نفسه. ابن المدرسة الاشتراكية، والمشبّع بقيم المذهب الحقوقي الإنسانوي، حمل عقوده الثمانية وذهب الى بكركي، ليسلم سيدها اقتراحاً خطياً، حول قانون انتخابي جديد، على قاعدة أن ينتخب أتباع كل مذهب نوابهم. كان ذلك منتصف التسعينات. وكان نعيم يومئذ أحد محامي سمير جعجع، في سلسلة الملفات المستولدة، التي فتحت في زمن الوصاية وقضائها. لم يتوقف البطريرك ملياً عند الاقتراح، أخذ علماً به، ثم عاد ليتأرجح على ثنائية الدائرة الفردية الغامضة، أو دائرة القضاء وفق التقطيع الشهابي لعام 1960.
ولم تكن فكرة نعيم غير مسبوقة. ذلك أن قانوناً مشابهاً كان قد اعتُمد في دولة مقدونيا المستقلة حديثاً، كحل للنزاع الإثني والمذهبي. كما لم يكن المشروع منبثقاً من العدم الدستوري قطعاً. ذلك أن موجباته الميثاقية أعادها العلّامة الراحل الى المادة 24 من الدستور لجهة النص على تساوي النواب في التوزيع بين المسيحيين والمسلمين. مجتهداً في ذلك أن النص قصد المساواة بين المجموعتين من المواطنين، أي بين كل المسيحيين اللبنانيين، وبين كل المسلمين اللبنانيين أيضاً. وبالتالي فالتساوي الميثاقي المطلوب لا يعني المناصفة بين 64 شخصاً مسيحياً ومثلهم من المسليمن، بل بين تجسيد ارادة كل من الجماعتين.
غير أن هذا السند الدستوري والميثاقي، لم يكفِ للاقتناع بالمشروع المذكور، فانتهى ضربة في الماء. حتى إن صاحبه ربما نسيه لاحقاً، أو ودّ لو يتناساه، وخصوصاً بعدما انتخب نائباً عن دائرة بعبدا ـــــ عاليه، ليشغل المقعد الماورني فيها، بنحو ربع أصوات المقترعين المسيحيين، ليحل زملاؤه الفائزون خلفه كلهم وبنسب أدنى، فيما منافسوهم يكتفون بخسارة المقاعد المسيحية، رغم حصدهم أكثر من 70 في المئة من أصوات المقترعين المفترض بهذه المقاعد أن تمثلهم.
وطيلة عامين ظل السجال قائماً بين مسيحيي السلطة، والمعارضة المسيحية. وطيلة عامين لم يعترف صوت واحد من الطرف الأول بصحة هذه المعادلة، لا بل ذهب أولئك إلى حدّ استنباط تناقضات جديدة. فيوم طرحت فكرة انتخاب رئيس للجمهورية من الشعب، قام من بينهم من يستفظع الموضوع، على قاعدة أن هذا الطرح سيؤدي الى اختيار الرئيس الماروني من جانب المسلمين.
وراح هؤلاء يبيّنون كيف أن الانتخاب الرئاسي غير المباشر وعبر مجلس النواب، يحفظ هوية الرئيس المارونية، والمسيحية أكثر . فيما التدقيق في هذه المقولة يكشف عورتين فيها:
الأولى أن الاصطفاف السياسي العابر للطوائف اليوم، يجعل من الاقتراع المسيحي فعلاً، الكفة المرجّحة في أي انتخاب رئاسي من الشعب. ذلك أن غالبية الاقتراع السني محسوبة على طرف، فيما غالبية مماثلة من الاقتراع الشيعي محسوبة على طرف آخر. وهو ما يسمح بتحييد الغالبيتين في أي اقتراع شعبي عام، ليصير الاقتراع المسيحي وحده المرجّح والوازن والحاسم.
وهذا ما ثبت فعلاً في فرعية المتن الشمالي الأخيرة. بعدما تعادلت أصوات أمين الجميل السنية والدرزية، مع أصوات كميل الخوري الشيعية. فجاءت أصوات المسيحيين لتعطي النتيجة.
أما العورة الثانية فهي كون النواب المسيحيين الحاليين، يملكون «شرعية» مسيحية لجهة اقتراعهم وكيفيته، أقل بكثير من الشرعية الممكن انبثاقها من اقتراع لبناني عام. فإذا كان الناخبون المسيحيون المسجلون على لوائح القيد يتخطون 40 في المئة من مجمل الناخبين. فالملاحظ أن نائبين مسيحيين اثنين فقط من مسيحيي السلطة، انتخبا باقتراع مسيحي يتخطى هذا السقف، وهما كل من ستريدا جعجع (47,9% من المقترعين المسيحيين) وايلي كيروز (41,7%). فيما جميع نواب السلطة المسيحيين تحت هذا السقف بنسب كبيرة، علماً أنهم جميعاً فازوا في وجه أخصام حصدوا أكثر منهم اقتراعاً مسيحياً.
وقد يكون المسح الكامل لهذه النقطة معبّراً، وهو كالآتي: نقولا فتوش (24% من الاقتراع المسيحي) مقابل فؤاد الترك (62,6%). انطوان سعد (22,8%) مقابل إيلي الفرزلي (63,7%). أنطوان اندراوس (24,3%) مقابل مروان ابو فاضل (72,9). هنري الحلو (24%) مقابل اسعد ابي رعد (69,9%). فؤاد السعد (24,3) مقابل حكمت ديب (74,1). إدمون نعيم (27,4)، انطوان غانم (26,6) وعبد الله فرحات (22,4)، مقابل بيار دكاش (73,9)، شكيب قرطباوي (73) وناجي غاريوس (69,1). نبيل البستاني (27,7)، ايلي عون (27,6) وجورج عدوان (37,1)، مقابل ماريو عون (63,8)، غيّاث البستاني (51) وكميل شمعون (44,4). ستريدا طوق -جعجع (47,9) وإيلي كيروز (41,7)، مقابل جبران طوق (50,2). هادي حبيش (37,6) مقابل مخايل الضاهر (57). رياض رحال (37,8) وعبد الله حنا (36,5)، مقابل جوزف شهدا (59,7) وكريم الراسي (49,1). موريس فاضل (38,7) مقابل رفلي دياب (55,7). الياس عطا الله (32,7) مقابل فايز كرم (63,8). نايلة معوض (37,2)، وجواد بولس (35,3) وسمير فرنجية (35,1)، مقابل سليمان فرنجية (65,4) واسطفان الدويهي (55,7) وسليم كرم (53). فريد مكاري (38,4)، وفريد حبيب (37,7) ونقولا غصن (35,8)، مقابل فايز غصن (56,3) وسليم العازار (57,4) وعطى جبور (52). بطرس حرب (38) وانطوان زهرا (35,2)، مقابل جبران باسيل (62,7) ونزار يونس (57,5). أما الآخرون من مسيحيي السطلة ففازوا بالتزكية في ظل قانون الحريري ـــــ كنعان.
وهو ما يقود الى السؤال: كيف سيتم التعاطي مع الجانب الشرعي والتمثيلي من الاستحقاق الرئاسي، لجهة من سيَنتخب ومن سيُنتخب؟ أم ان المعادلات الجديدة ستكون مفصّلة للإتيان برئيس لا يرأس، ولجمهورية لا جمهور له فيها؟