نقولا ناصيف
بين قائد الجيش العماد ميشال سليمان ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة، كالذي كان بين سلفه العماد إميل لحود والرئيس رفيق الحريري. والذي بين سليمان ورئيس الجمهورية إميل لحود، كالذي كان بين الأخير قائداً للجيش والرئيس الياس الهراوي. في حقبة الطائف نشأ سوء تفاهم مُكلِف بحكم توازن قوى كانت قد أرسته دمشق في العلاقة بين المرجعيات الثلاث تلك، على نحو بدت سوريا قطب الجذب بينها، وأنها هي مرجعية المرجعيات الثلاث، لا الأصول القانونية والسياسية التي تنظم علاقة قائد الجيش برئيسي الجمهورية والحكومة، وكذلك علاقة الأخيرين بعضهما ببعض. وهكذا، على مرّ عهد الهراوي كان لحود قائداً للجيش يمثل سلطة ثالثة تشتبك مع رئيسي الجمهورية والحكومة على السواء، وتجد في الوقت نفسه ملاذ حمايتها لدى المسؤولين السوريين. الأمر نفسه في عهد لحود قبل خروج سوريا من لبنان. كان سليمان قائد سلطة ثالثة، هي الجيش، بين سلطتي رئيس الجمهورية والحكومة. يفسّر ذلك العلاقة المميزة التي جمعت قائد الجيش في العهدين المتعاقبين بالرئيس حافظ الأسد، ثم بخلفه الرئيس بشار، من غير أن يكون في وسع الهراوي والحريري، ثم لحود والحريري، الاحتجاج عليها أو الامتعاض منها، وقد فعل كل منهما ذلك في سرّه.
ولم تكن هذه حال قائد الجيش في مرحلة ما قبل الطائف، إذ كان رجل رئيس الجمهورية. وعندما يختلفان يرجّح الرئيس كلمته وقراره على القائد الذي ليس له أن يتحفظ أو يتصرّف في منأى عن رئيس الجمهورية. وكان الرجلان مارونيين. لم يواجه الرئيس بشارة الخوري مشكلة مع اللواء فؤاد شهاب، ولا الأخير رئيساً مع نسيبه العماد عادل شهاب، ولا الرئيس سليمان فرنجية مع العمادين إسكندر غانم وحنا سعيد، ولا الرئيس إلياس سركيس مع العماد فيكتور خوري. ثلاثتهم أقاموا موقعهم في القيادة على حافة الرئاسة: عاند الرئيس كميل شمعون اللواء فؤاد شهاب متحوطاً من خلافته له بعد دور الأخير عام 1952، وأقيل العماد إميل بستاني لأنه طمح إلى خلافة الرئيس شارل حلو خلافاً لإرادة الشهابيين، ودخل العماد ميشال عون في مواجهة مع الرئيس أمين الجميل والدكتور سمير جعجع، ثم مع سوريا، لأنه أراد الوصول إلى الرئاسة.
بعد خروج الجيش السوري من لبنان قبل سنتين، وجد العماد سليمان أنه، دون سواه من أسلافه، يمتحن قيادته وعلاقته بالسياسيين من دون نفوذ الاستخبارات العسكرية السورية، وقد اختبرها في ظلها. وهكذا، بعد خروج سوريا من لبنان، أصبح كل من الرجال الثلاثة يؤدي دوراً مختلفاًَ عن موقعه في المعادلة الداخلية: يريد لحود تأكيد أنه رئيس الدولة الباقي في منصبه والحليف الموثوق به لدمشق. ويريد السنيورة أن يبرهن للمجتمع الدولي الذي يدعمه أنه قادر، بمؤازرته، على الاضطلاع بدوري رئيسي الجمهورية والحكومة في آن واحد. ويريد سليمان، في حمأة الانقسام السياسي والمذهبي وتفكك المؤسسات الدستورية، أن يوازن بين قوى 14 آذار والمعارضة، فلا ينحاز إلى إحداهما ضد الأخرى ويحفظ بقاء الجيش في وسط المواجهة ويضمن الاستقرار والأمن، ولا يُستدرج أيضاً إلى لعبة طرفي النزاع بغية إضعاف دور الجيش في التوازن الداخلي المستعر وفي الاستحقاق الرئاسي. بذلك اختلف سليمان مع لحود والسنيورة. قيل في مرحلة الجفاء بينه وبين رئيس الجمهورية إنه أصبح حليفاً للفريق الآخر كي يحفظ موقعه في القيادة ويجاري تياراً جارفاً. وقيل بعدما استعاد العلاقة بالرئيس واختلف مع السنيورة إنه استعاد مبادرة التوازن الذي لا يجعله أسير حكومة الغالبية توجّه الجيش على نحو توجيهها قوى الأمن الداخلي.
لكن بين قائد الجيش ورئيس الحكومة دوافع تحمل الثاني على معارضة تعديل المادة 49 من الدستور للحؤول دون إتاحة الفرصة أمام ترشيح الأول لرئاسة الجمهورية. واستناداً إلى ذلك، وفق معلومات دبلوماسية، أبلغ السنيورة سفراء دول عربية وغربية معنية مباشرة بالوضع اللبناني أن حكومته ترفض تعديل الدستور تمهيداً لانتخاب سليمان أو حاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة لرئاسة الجمهورية، وأنها تتشبّث باحترام الأصول الدستورية التي ترعى انتخاب رئيس الجمهورية.
وطبقاً للمعلومات نفسها، فإن السنيورة أسرّ بموقفه هذا إلى سفراء مصر والسعودية وفرنسا والولايات المتحدة، مع تأكيده أن على الراغبين في إجراء تعديل دستوري كهذا أن يأتوا بحكومة أخرى لا يترأسها هو لإمرار هذه الخطوة. وشدّد على أن أي تعديل، من أي مصدر دستوري، لن تتبناه حكومته. وقد عبّر عن موقفه هذا، معوّلاً على معارضته تعديل الدستور لتمديد ولاية لحود في أيلول 2004. ورغم إلحاح الحريري عليه حينذاك ـــــ وكان قد تعهّد لدمشق لدى اجتماعه بالأسد في 27 آب 2004 حمل نواب كتلته على التصويت للتمديد ـــــ قاطع السنيورة جلسة مجلس الوزراء التي أقرّت تعديل المادة 49، ولم ينضم إلى زملائه الوزراء إلا بعدما أنهوا التصويت، وقد انهالت عليه مكالمات الرئيس الراحل.
وفي واقع الحال لم ترضِ الطريقة التي قارب بها سليمان العلاقة بين الغالبية والمعارضة رئيس الحكومة، ولا كذلك ردّ فعل القائد على حدثين مهمين استعجل السنيورة قيادة الجيش اتخاذ موقف منهما، فتحفظت هذه ما لم يحظَ تنفيذهما بموافقة رئيس الجمهورية: أولهما عندما طلب رئيس الحكومة من قائد الجيش مساء 25 كانون الثاني 2007 إعلان حظر التجوّل في مناطق الاشتباك السنّي ـــــ الشيعي، فرفض سليمان ما لم يُصَر إلى الاتصال بلحود المعني بدوره بالقرار بصفته رئيس المجلس الأعلى للدفاع. ولم يعلن الجيش انتشاره ومنع التجوّل إلا بعد موافقة الرئيس. وثانيهما إبان الحرب الإسرائيلية على لبنان عندما امتنع سليمان عن الموافقة على نشر الجيش في الجنوب بلا موافقة لحود، فكان أن اجتمع مجلس الوزراء في 7 آب 2006 برئاسة رئيس الجمهورية واتخذ قراراً بنشر الجيش في الجنوب. ثم أتى الموقفان الأخيران لسليمان حيال إمكان استقالته من منصبه، والصادران في 24 تموز و14 آب الفائتين، بإعلان رغبته في التنحي إذا تألفت حكومة ثانية، ثم قوله إنه باق في المنصب إلى حين تأليف أولى حكومات العهد الجديد. وهو بذلك ذكّر حكومة السنيورة ضمناً بأن استمراره في المنصب لا يجعله هدفاً لها إذا أقدمت على إقالته. وتسلّح سليمان، في إشارته الضمنية أيضاً، بأمرين: أحدهما أن تعيين خلف له يكون بمرسوم يتخذه مجلس الوزراء مجتمعاً برئاسة رئيس الجمهورية الذي يصدره بعد أن يمهره بتوقيعه. والآخر أن قانون الدفاع هو الذي يرعى آلية توجيه الأوامر إلى قائد الجيش عبر جلسة لمجلس الوزراء مجتمعاً برئاسة رئيس الجمهورية.
وفي واقع الأمر ثمة ما يبعث على قلق فريق الغالبية، هو مضمون تقرير دبلوماسي أميركي بلغ إلى جهات رسمية، عبّر بدوره عن خشية واشنطن، ليس من انتخاب سليمان رئيساً فحسب، بل موافقته على ترؤس حكومة ثانية، قال التقرير إنها ستكون «بمثابة انقلاب عسكري» ينهي حكومة السنيورة، وتكون الحكومة الثانية إذ ذاك هي الأولى.