جان عزيز
«أنا من الذين يقولون إن الدستور يجب أن يحترم، وإلاّ إذا كان الدستور سيصبح قانوناً عادياً، فإنه لا يحترم ويعرّض البلد لصعوبات كثيرة (...)
يجب احترام الدستور، أمضينا أكثر من خمسين عاماً في القول إن الدستور لا يمس، ثم كانت في السنوات الأخيرة بعض المحاولات لتعديل الدستور، وقد عدّل (...) لا يمكن تعديل الدستور كيفما اتفق وحين نشاء...».
هذه الكلمات للبطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، أعلنها من العاصمة الفرنسية، في الأول من تشرين الأول سنة 2003. وهذه الكلمات هي ما كان يردده ويذكرّ به أحد أبرز سياسيي فريق 14 آذار قبل أيام قليلة.
بين خلوة العماد ميشال سليمان في الديمان يوم السبت الماضي، وحديث البطريرك الأخير الى الزميلة «السفير» يوم أمس، كان مسيحيو 14 آذار، يجهدون لطمأنة أنفسهم أولاً، والآخرين ثانياً. وكانوا شبه جازمين بأن سيد الصرح لن يمشي بأي تعديل للدستور. حتى إن المعادلة كانت واضحة بالنسبة اليهم: لا يمكن البطريرك الذي وقف في الأول من أيلول سنة 2004، قبل ساعات على التمديد لإميل لحود، وأعلن شكواه الأخيرة حيال «تعديل الدستور خلافاً للدستور، وفرض هذا التعديل من خارج البلاد بخفة (...) بقطع النظر عن الشخص»، أن يتراجع اليوم. لا بل كان هؤلاء يتطلعون سراً الى النداء المرتقب للبطريركية المارونية في الخامس من أيلول المقبل، ويراهنون علناً، على أن النداء المذكور سيقطع الطريق على أي تعديل دستوري، رئاسي جديد، وبالتالي سيفتح الطريق الموازي لاختيار شخصية سياسية من النادي الرئاسي المعروف.
ثم إن زوار الصرح البطريركي الصيفي بعد خلوة السبت عادوا الى رئاسيي الفريق الحريري بالمزيد من التطمينات. وراحت تتداول المقولات المتبادلة في الخلوة: قال قائد الجيش لصاحب الغبطة: أنا لست معنياً بالتجاذبات الرئاسية الحاصلة. كل تفسير سياسي لما أقوم به مرفوض. ما نقوم به في معارك نهر البارد عسكري ميداني بحت. ومواعيده محكومة بالتطورات العملانية وحدها، دون سواها من التأويلات.
بعدها، ارتفع منسوب التطمينات، إثر زيارات متكررة للسفير الأميركي جيفري فيلتمان الى اليرزة. وفي أوساط فريق السلطة كان كلام صريح عن أن ناظر سياسة واشنطن في بيروت نقل كلاماً واضحاً الى قائد الجيش، عن تصميم إدارته على «إجراء الاستحقاقات الرئاسية وفق الآليات الدستورية القائمة، من دون أي خرق لها». وما كان ناقصاً في التطمين اكتمل إثر السجال الذي دار بين عوكر واليرزة، حول مسؤولية الأطراف المعنيين حول تسليح الجيش وتجهيزه وضمان أهليته لمواجهة المهمات الملقاة عليه.
وسط هذه الأجواء بلغ مزاج مسيحيي 14 آذار حد اليقين. قال البطريرك لأحدهم بالحرف: أنا لا يمكن أن أكون ضد الغرب. لا أستطيع أن أقف في أي مواجهة ضد باريس وواشنطن. لقد قلت هذا الموقف لميشال عون، وأقوله للجميع.
عندها ارتاح الجميع، وانطلقت الحركة الرئاسية على خطوط عدة: خط الرياض ـــــ باريس، لترجمة التوجه الأميركي، خط عين التينة لاستطلاع كيفية الترجمة والتنفيذ. وخط الترشيحات المتهافتة من قلب 14 آذار، على قاعدة ان حسم الأمر، لعبة الروليت الرئاسية باتت محصورة. إذن فليبدأ سباقنا الداخلي.
فجأةً تبدّل معطيان أساسيّان: البطريرك يؤكد علناً عدم ممانعته تعديلاً دستورياً رئاسياً، واليرزة تبدي «مقاومة» واضحة في التمسك بخياراتها.
في تبدّل المعطى الأول يقول مواكبون لأجواء الصرح البطريركي إن أسبابه باتت معروفة. هناك أولاً حال اللاودّ تجاه الكثير من الأسماء المطروحة والممكنة من جانب فريق السلطة، وهناك ثانياً عدم الارتياح الى الدور ــ البرنامج الذي يطرحه هؤلاء المسترئسون لمقاربة الاستحقاق. فلا هناك بشارة الخوري الذي قارب الرئاسة من زاوية الاستقلال عن فكرتي الوحدة أو الانتداب. ولا هناك كميل شمعون الذي قاربها من منطلق مصالحة الكيان مع القضايا العربية الصاعدة. ولا هناك فؤاد شهاب الذي وازن بين استقلال السياسة الداخلية واستقرار السياسة الخارجية وبالعكس.
هكذا بدت كل أسماء الفريق السلطوي، كمن يقارب وظيفةً في شركة لا أكثر.
لكن اللافت بحدة تبدّل معطى اليرزة، حيث صارت أوساط زوارها تتحدث لغة أكثر ممانعة حيال هجمة الفريق الحكومي. وصار الكلام أشد وضوحاً تجاه فؤاد السنيورة وسلبيته حيال المؤسسة العسكرية وأشخاصها، وحيال كل مواطن ذي جذور مرتبطة بها. وصار الاتهام أكثر صراحةً حيال الظواهر الأصولية:
«هل يريدون أن نقول جهراً إن وراء هؤلاء هذين النظامين العربيين المعروفين بتصدير الأصوليين إلينا؟». وصار التطلع أشد جرأة حيال الآتي من الاستحقاقات: «نعم نريد أن نتعاطى السياسة، دفاعاً عن ديموقراطيتنا واستقلالنا وحرياتنا، ولو بعد عودتنا الى حياتنا المدنية».
قيل إن البطريرك سئل مرة: كيف قبلت بإميل لحود رئيساً؟ وقيل إنه أوحى بإجابة على طريقته، ومفادها: بين المعروضين، كان الأقدر على مواجهة سوريا ورفيق الحريري. هل تتكرر المعادلة القياسية نفسها، مع تبديل بعض الأسماء؟ وهل تكفي للخروج من المأزق أم تزيده عمقاً، ما دامت الشرعية المسيحية الرئاسية في مكان آخر؟