جوان فرشخ بجالي
إنها قرية رومانية ــ بيزنطية شيدت على مقربة من قرية شحيم الحالية، ولذلك تُعرّف بـ«شحيم». هي قرية عاش أهلها داخل أسوارها ستة قرون، ونمت اقتصادياً معتمدة على تجارة الزيتون ومشتقاته، ثم ــ ولسبب لا يزال مجهولاً ــ هجرها أهلها وغابت في النسيان الى أن اكتشفها علماء الآثار البولنديون وفككوا تاريخها بحفرياتهم

بين أحراج قرية شحيم التي ترتفع على تلال إقليم الخروب «تختبئ» آثار قرية بيزنطية صغيرة. إنها قرية صغيرة عاشت لعدة قرون، ونمت واعتمد أهلها على ازدهار تجارة منتجات الزيتون، ومن ثم هجروها فغرقت في النسيان إلى أن قررت بعثة أثرية استكشافها واستعمالها لتكون شاهداً على التاريخ، وذلك بعد 1500 عام على اندثارها.
معابد «شحيم» القديمة ومنازلها وأزقتها وكنائسها ومقابرها عادت الى الوجود، وأفضت بأسرارها إلى أعضاء البعثة البولندية التي بدأت العمل في الموقع عام 1996 ولا تزال حتى اليوم تواصل دراسته. ويقول مدير البعثة العاملة في شحيم والأستاذ في جامعة وارسو توماس فاليزفسكي «هذه السنة لم يأت الى الموقع إلّا فريق علمي صغير متخصص لإتمام دراسة القطع الأثرية من دون القيام بحفريات جديدة، وذلك بسبب الأوضاع السياسية الصعبة التي يعيشها لبنان»، وقد أنهت البعثة أعمالها قبل أيام، وعاد أعضاؤها أدراجهم الى وارسو.
يتمتع موقع شحيم بأهمية كبيرة، فهو الشاهد الوحيد في لبنان على الحياة اليومية في القرى الرومانية والبيزنطية التي كانت تنتشر بكثافة في أرجاء الجبل. ويشرح فاليزفسكي بأن «الموقع كان شبه مأهول في العصر البرونزي، لكن الحياة لم تدبّ فيه بشكل فعلي حتى بداية القرن الأول قبل الميلاد واستمرت بعده حتى الخامس. وهذا ما يزيد من أهمية الموقع إذ هو شاهد على تبديل الديانات داخل قرى الإمبراطورية الصغيرة. المعبد الروماني استُبدل لاحقاً بكنيسة مبنية على شكل بازيليكا (أي بثلاثة أروقة)، وتُظهر دراسته كيف تبدلت الديانة بشكل سلمي وبسيط كأنما هي «تطور» للحياةوتجدر الإشارة الى أن الأبنية الدينية في قرية شحيم القديمة كانت تشكل ساحة اللقاء التي تتمحور حولها القرية. الأبنية والأزقّة تتفرع من الساحة، فكانت للأحياء السكنية أبواب، وكان لكل أربعة أو خمسة بيوت معصرة زيتون، وتبتعد هذه البيوت «العادية» عن مقر «سيد القرية» الذي شُيّد على تلة مرتفعة قليلاً وله معصرة الزيتون الخاصة به. وفي الناحية الثانية من الموقع تمتد المقابر التي تتّبع تأريخ القرية.
استنتجت البعثة البولندية هذه المعطيات من خلال العمل والتنقيب لعشرة مواسم، ويعتبر فاليزفسكي أن «القيام بحفريات أثرية علمية داخل المعبد والكنيسة وفي جوارهما يُعطي لهذه الحفرية أهمية كبرى. وهذه المرة الأولى التي يُدرس خلالها «تطور الديانات» بشكل علمي». ويؤكد فاليزفسكي أن الدراسات التي قام بها مع فريقه أجبرته أكثر من مرة على تغيير رأيه في النظريات التي كان يعمل على أساسها، ويقول «حين بدأنا العمل في الموقع اعتقدنا أن القرية شُيّدت بسبب المعبد الروماني، لكن ما إن بدأت الحفريات في أساسات المعبد حتى تبدلت الفكرة: المعبد الروماني يرتفع فوق معبد آخر أقدم منه، والأخير يتّبع شكلاً هندسياً محلياً بسيطاً جداً ومعروفاً». ويوضح فاليزفسكي أن «المعبد القديم مُشيد بشكل مستطيل وفي وسطه بركة للماء، وقد عُثر على معابد تتبع الشكل الهندسي نفسه في صور، ما يحثنا على القول بأنه محلي في حين أن المعبد الذي لا يزال قائماً حتى اليوم كان الرومان قد شيدوه في منطقة مأهولة لتوسيع إطار ديانتهم»، لكن للأسف لم يحفظ داخل جدران المعبد أي تمثال أو كتابة تحمل دلالة على الإله الذي كان يُعبد في شحيم قبل ألفي سنة، وأُهمل لاحقاً حين قرر أهالي القرية اعتناق الديانة المسيحية. وعن تغير الديانة يقول فاليزفسكي بأنها تمت «بسلام. فالمعبد أُهمل في القرن الثاني الميلادي وبُنيت بجواره كنيسة. ويُرجح أن يكون المبنيان الدينيان قد استعملا في الوقت عينه لفترة قصيرة».
وفي القرن الرابع الميلادي أصبح لشحيم القديمة بازيليكا كبيرة، وقد زُيّنت أرضيتها بقطعة فسيفساء كبيرة رُسمت عليها أشكال حيوانات ونباتات وأرّختها كتابة باللغة اليونانية. ويقول مدير البعثة عن الكتابة «إنها مليئة بالأخطاء الإملائية ما يشير الى أن كاتبها كان مطّلعاً على اللغة اليونانية، لكنه لم يدرس أصول قواعدها، هذه الملاحظة تدفعنا إلى القول بأن الفنان الذي أتم هذه القطعة هو أيضاً من أبناء المنطقة، إذ إن اللغة المحكية بين الناس كانت الآرامية في حين أن اليونانية كانت لغة الدولة فقط. وهذا ما يزيد من أهمية موقع شحيم: إنها الثقافة القروية المحلية التي تكشف عن أسرارها».
بيد أن تلك القرية لم تكشف بعد كل أسرارها، فاسمها الأصلي القديم مثلاً لا يزال مجهولاً، إذ لم يعثر علماء الآثار على أية كتابة في الموقع تشير إليه. أما السر الثاني الذي لا يزال دفيناً فيتمحور حول سبب هجرة أهاليها منها. فقد تبين أن الأهالي وضبوا أغراضهم، وأفرغوا منازلهم ورحلوا عن القرية في القرن السادس الميلادي. المنازل خاوية إلا من بعض القطع المتروكة أو المنسية. ولكن لماذا رحلوا؟ سبب تلك الهجرة يبقى مجهولاً، وخاصة أن شحيم لا تنفرد بتلك الظاهرة، فعدد من القرى والمدن شمال سوريا فرغت في الفترة نفسها من سكانها. وهذا ما يفتح الباب واسعاً أمام الاستنتاجات والنظريات. فيتحدث بعض المؤرخين عن أوبئة ضربت القرى، ويكتب آخرون عن تدنّي أسعار منتجات الزيتون لدرجة أنها لم تعد تكفي لتوفير مستلزمات العيش... تبقى التحليلات في الإطار النظري الى أن يتم التأكد منها من خلال اكتشاف أثري. وإلى حين الوصول إلى ما يكشف سر هجرة أهالي شحيم القديمة، يعمل فريق البعثة العلمي حالياً على إنهاء الدراسات حول ما اكتُشف في الموقع من مبانٍ وقطع أثرية، ثم ستُنشر كل الاستنتاجات في مجلة «BAAL» التي تصدرها المديرية العامة للآثار، وذلك خلال الأشهر القليلة المقبلة. وبانتظار ذلك يأمل المهتمون بالآثار أن يُؤهل موقع شحيم ليصبح موقعاً سياحياً يستقبل السياح والزائرين من محبي التاريخ، فآثار القرية الغارقة بين الأشجار وأطلال المعبد والبازيليكا رائعة، وتستحق أن يتكبد المرء عناء أن يقطع طريقاً طويلة حتى يصل
إليها.




الفسيفساء المسروقة

عام 1999 عثرت البعثة البولندية على قطعة فسيفساء فريدة من نوعها، تُزيّنها كتابات يونانية كانت تغطي أرض البازيليكا. وما إن أنهت أعمالها وأعلنت الاكتشاف حتى سُرقت القطعة من داخل الموقع. وبدأت التحقيقات، وبعد أشهر عثرت الأجهزة المختصة على القطعة الفنية وأعادتها الى البعثة، لكن إعادة الفسيفساء الى مكانها الأصلي لم تعد ممكنة، فالطريقة التي اعتمدت لسحبها، بهدف سرقتها، كانت سيئة للغاية. فاللصوص استعملوا أنواعاً سيئة جداً من الصمغ وقاموا بلف الفسيفساء وكأنها قطعة من السجاد، الأمر الذي أدى الى وقوع عدد هائل من الحجارة الصغيرة التي تؤلفها، وسيقع كل ما بقي منها إذا حاول المختصون بسط الفسيفساء على الأرض.
الحل الوحيد الذي يمكن اعتماده هو بسط الفسيفساء واستعمال حجارتها القديمة في إعادة الرسم.