strong> بلال عبود
  • حملوا عاداتهم وأسماءهم واختاروا لبنان بلداً نهائياً


  • ثمة جالية تركية في لبنان، لا يتنبه كثيرون إلى وجودها، وفيما يصر بعض أفرادها على تمايزهم يسعى آخرون إلى الاندماج كلياً في المجتمع اللبناني. هم نحو 50 ألف شخص، لا يهتمون بالشأن السياسي، ولا يريدون أن يتحملوا «وزر» ما ارتكبته السلطات التركية في تاريخها الحديث من مجازر واحتلال

    يعيش محمود ناجي وعائلته ذات الأصول التركية في لبنان منذ أكثر من 50 عاماً، يذكر أن والده قدم إلى بيروت «المدينة الأجمل في الشرق في الستينيات». استقر محمد والد محمود في بيروت مع زوجته نورا، وقد كان يومها «عريساً جديداً» لم يبلغ السابعة عشرة. مع مرور الوقت بدأت عائلته تكبر، ولم يهجر الأبناء لبنان «بلدهم الأول»، إلاّ أن التواصل مع البلد الأم يبقى قائماً، وذلك عبر التمسك بالتراث الثقافي، ومن خلال زيارات يقومون بها للأقارب في تركيا كل سنة تقريباً.
    حصلت عائلة محمود على الجنسية اللبنانية في أوائل التسعينيات، وذلك على رغم أنهم عاشوا طوال حياتهم في بيروت وولد أولادهم فيها، ومصطفى الابن الأوسط لهذه العائلة خدم في الجيش اللبناني، عندما كانت الخدمة العسكرية الإجبارية سارية المفعول.
    عائلة محمود لا تشكل استثناءً، فثمة عائلات تركية كثيرة في بلادنا، ويتوزع الأتراك الذين يقدر عددهم في لبنان بخمسين ألفاً، في العاصمة ومناطق أخرى، بعضهم في البسطة وبرج أبي حيدر في بيروت، وثمة عائلات أخرى تعيش في بلدتي الخيارة وبر الياس البقاعيتين، كما يوضح يوسف حسن ويضيف «هناك من يخلط بين الأكراد والأتراك في لبنان، والواقع أن الأكراد مختلفون عن الأتراك في العديد من العادات والتقاليد، بالإضافة إلى اللغة والمشاكل السياسيةيعود الخلط بين الأكراد وأبناء عمومتهم الأتراك في لبنان بسبب «التشابه» بينهم، فعاداتهم في نظر اللبنانيين متقاربة.
    في لبنان عدد الأكراد يفوق عدد الأتراك ويوضح يوسف أن هناك جزءاً من الأكراد «هم مواطنون حاصلون على الجنسية التركية يعرفون باسم «الكرمنج» ولكنهم يميزون أنفسهم عن المجتمع التركي من أجل هدف سياسي يتعلق بإقامة الدولة الكردية والاستقلال الذاتي».
    لا يرى محمد ناجي، وهو الابن الأكبر لمحمود، اختلافاً جوهرياً بين الثقافة التركية والثقافة العربية، وذلك على رغم تعدد أوجه الاختلاف بين هاتين الثقافتين في الواقع، ولكن محمد يذكر أن التفاعل بين الثقافتين يعود إلى مئات السنين، وهو يقول إنه ينتمي إلى عادات البلد الذي يعيش فيه، ويلتزم بعادات أهله. يبدو محمود ناجي أكثر تمسكاً من أولاده بجذوره الثقافية والاجتماعية، فالتمايز بين الأتراك والعرب هو شيء واضح في نظره، إلا أن وجود عائلته والعائلات التركية الأخرى خلق حالة ثالثة مشتركة بين الثقافتين.
    تتجلى الثقافة الاجتماعية المتميزة للأتراك في لبنان، بأكثر مظاهرها، من خلال الأعراس والمناسبات الخاصة السعيدة والحزينة، فهناك طقوس معينة في الاحتفال، إذ تُعتمد الأغاني والرقصات التركية التي تشبه الدبكة اللبنانية، وهناك أسلوب خاص يعتمده أهل العريس في تقديم الهدايا المالية والذهب للعروس.
    عادات الاحتفالات
    يبدأ حفل الزفاف من بيت العروس، حيث يقام لها احتفال صغير في بيت أهلها، ثم يأتي العريس فيسلمه الوالد ابنته بعد أن يوصيه بالمحافظة عليها «لأنها من الآن فصاعداً أصبحت شريكة حياته»، ويتم بعدها الانطلاق الى مكان الاحتفال في صالة أو في بيت العريسبوصول العروسين تبدأ مراسم الزفاف، فتُقدم «العلامة» المؤلفة بشكل أساسي من الذهب، وتوضع على «صينية» ثم تتناقلها أيادي الفتيات من أهل العروس والعريس... إلى أن تصل الى والدته التي تقدمها مجدداً للعريسين ليقوما بما يُعرف «بتلبيس العلامة»، وبعدها يتحول الحفل الى الرقص والأغاني الاحتفالية التركية. وأشهر الرقصات هي رقصة تسمى «الباقياه»، إذ يشبك كل شخص خنصره بخنصر من بجانبه وتُشكّل حلقة شبيهة بالدبكة ويدور المشاركون على وقع الزغاريد، وتلوّح النساء المتقدمات في السن بالمناديل. وفي منتصف الحفل يقوم أقارب العروسين من الذكور، أي العم أو الخال، بتقديم هدايا مالية تسمى «بالاتمان».
    ينحدر الكثير من الأتراك الموجودين في لبنان من مناطق الأرياف في تركيا، حيث يتحدث الأهالي اللغة التركية واللغة العربية، ولهم لهجة مميزة ومصطلحات مختلفة ويعود السبب إلى أن هذه العائلات ترتبط باللغة العربية انطلاقاً من عقيدتها الإسلامية التي تمسكت بها عبر الأجيال، وذلك منذ أيام الإمبراطورية العثمانية، وقد استمر الأمر على حاله حتى بعد قيام الدولة العلمانية مع أتاتورك.
    تتحدث منى ش. عن مشكلة يواجهها الأتراك في المجتمع اللبناني، وهي تتعلق بالنظرة التاريخية إلى الوجود التركي في البلد أيام السلطنة العثمانية، «ففي أيام المدرسة تعرضت لمواقف كثيرة وطُلب مني مراراً أن أبرر لزملائي أحداث حصلت قبل مئة سنة فقط لأنني من تركيا»، وتضيف أن هناك أماكن لا تقبل بوجود أتراك فيها مثل برج حمود ومحيطها حيث يسكن الأرمن، «ويذكر أحمد زين يوم كان في شارع آراكس يتسوق فسأل البائعة عما إذا كانت الثياب صناعة تركية بهدف التأكد من مصدرها، فكان جوابها بأنها لا تقبل دخول كل ما هو تركي إلى محلها»، ولكن منى التي ترفض الحروب، لم تتفهم جيداً أن المجازر التي تعرض لها الأرمن هي الأكثر دموية وبشاعة في التاريخ التركي.
    تنزعج فاطمة الأخت الصغرى لمنى من مشكلة الأسماء والكنية المختلفة، وذلك حين تُترجم من التركية إلى العربية، فبعض الأسماء تُلفظ في لبنان بطريقة خاطئة، ولكن الأتراك في لبنان لا يتنبهون للأمر ويصرون على تسمية أبنائهم بأسماء الأجداد، ويعتبرون ذلك دليل احترام وتقديراً للوالد وتمسكاً بالثقافة الأم.
    الزواج المبكر
    يعتبر الزواج في سن صغيرة من الخصائص المميزة لمجتمع العائلات التركية، وهو لا يتم إلاّ بمشورة الأهل، أما الشرط الأهم فهو أن الأتراك في لبنان لا يتزوجون إلاّ من بعضهم.
    قليلون هم الشباب الأتراك الذين يتجاوزون سن العشرين من دون أن يكونوا قد دخلوا القفص الذهبي، و«السبب الأساسي هو أن الأهل يعتقدون بأنهم بذلك يبعدون أولادهم عن المشاكل لأن الزواج يبني شخصية الإنسان»، كما يرى سليمان إسماعيل، فيما يوضح محمد حسن «أن أهم فائدة من الزواج المبكر هو أن الآباء يكبرون مع أولادهم ولا يصبح هناك فارق كبير بين الأجيال»،
    ويتمكن كل أب من تزويج أبنائه قبل مماته، كما هي الحال معه، إذ يبلغ 27 عاماً وتزوج في عمر السابعة عشرة، وهو حالياً أب لثلاثة أولاد، أما والده فلم يتجاوز خمسين عاماً. ولكن البعض يعتقد أن موضوع الزواج في أعمار صغيرة بدأ ينحسر مع زيادة الاندماج العائلات التركية في المجتمع اللبناني، «فالشباب صاروا يتمسكون بإنهاء دراستهم الجامعية وتكوين أنفسهم قبل التفكير في الزواج»، كما ترى منى فتؤكد أن «فكرة الزواج من أبناء وبنات عائلات لبنانية أو غيرها أصبحت مقبولة أكثر».
    تزور عائلة محمود ناجي تركيا كل سنتين للاطمئنان على الأقارب، وأفرادها ما زالوا يحملون الجنسية التركية أيضاً، إلاّ أن فكرة الاستقرار في تركيا غير واردة «لأننا عملنا وتعبنا وكوّنّا أنفسنا في لبنان»، ويضيف أبو محمد «أنه لم يترك بيروت يوماً، وفي أيام الاجتياح كنت أقاوم مع المقاتلين في وجه القوات الإسرائيلية الغازية»، وهو لا ينكر حبه لبلده الأم حيث يعيش أهله «فمن ينكر أصله يكون بلا أصل»، لكن هذا لا يعني التخلي عن الوطن الذي نشأت فيه عائلته وعاشت. أبو محمد الخبير في العائلات التركية في لبنان يصنفها في قسمين «قسم تخلى عن تاريخه ليندمج في نسيج المجتمع اللبناني، والقسم الثاني الذي ما زال محافظاً على جزء من تراثه الخاص، بالإضافة إلى تفاعله مع المجتمع الذي يعيش فيه».
    حقق الأتراك في لبنان إنجازات على مستوى المشاركة في الحياة الاقتصادية والسياسية، فبعضهم من كبار رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات التجارية، وآخرون يتبوّأون مراكز في وظائف الدولة، أو هم أعضاء في المجالس البلدية ومخاتير. وبرز شباب أتراك نجوماً في الرياضة اللبنانية، وخاصة في لعبة كرة القدم.




    موسيقى تختصر المسافة

    تعتبر الأغاني التركية صلة وصل دائمة بين خليل رمضان و«ثقافته الأم وخاصة أغاني «إبراهيم تاتليس» الفنان التركي المشهور». فيحمل أشرطة الموسيقى التركية معه أينما ذهب، وتبقى معه في البيت والسيارة وحتى عند أصدقائه اللبنانيين. يأسف خليل لكثرة الأغاني التركية التي تُسرق ألحانها من بعض المغنين العرب، وهو يفضل أن يستمع إليها في نسختها الأصلية «لأن الألحان المسروقة يُسقط عليها الكلام فتفقد أي معنى فيها».
    يجمع خليل مع صديقه جهاد الأغاني التركية في موسوعة خاصة بهما، يتم الحصول عليها من خلال شراء كل ما هو جديد أثناء زيارة تركيا أو في بعض مراكز البيع الموسيقية في لبنان في حال وجودها. وتبقى شبكة الإنترنت أفضل وسيلة لحيازة كل ما هو جديد. ويقومان أيضاً بتزويد الحفلات الخاصة بالأتراك بما يملكانه من «مخزون موسيقي».