إبراهيم الأمين
سيطول انهماك اللبنانيين بالكلام على استحقاق رئاسي داهم. وفي الخارج القريب أو البعيد يُنظر للأمر على أنه جزء من سياق يتصل بالخريطة السياسية اللبنانية لعقود مقبلة من الزمن، لا لولاية رئاسية. ومهما حاولت قوى كثيرة داخلية أو خارجية تبسيط الأمر وردّه إلى اعتبارات ذات بعد محلي ونسبته إلى شؤون داخلية لدولة مستقلة، فإنه على حقيقته يتجاوز الكبار من اللاعبين المحليين، الأمر الذي يوجب التعامل معه بمزيج من الجدية الباحثة عن تفاهم خارجي يحمي إخراجا هادئاً لهذا الاستحقاق، ولعبة تشاطر على الطريقة اللبنانية التي تهتم كثيراً بتوزيع علامات الربح والخسارة في آخر النهار.
أما الجانب الكاريكاتوري من الأمر فهو المتعلق بمواقف القوى الداخلية التي تبذل جهوداً كبيرة لإظهار استقلالية ما، وهو حال فريق 14 آذار مجتمعاً ومسيحيي 14 آذار منفردين، إذ إن التكتل الكبير يريد القول بأنه مستقل عن أي تأثيرات خارجية من جانب أميركا أو فرنسا أو محور «الاعتدال العربي»، بينما يجهد مسيحيو هذا التكتل لإظهار أنفسهم بأنهم يملكون هامشاً واسعاً من الحركة وليسوا خاضعين للحسابات التي يرسمها تيار «المستقبل» والناطق باسمه النائب وليد جنبلاط.
ومع أن قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع يحاول أن يُظهر قدرات خاصة لمواجهة المرحلة المقبلة، فهو أراد مجدداً من اجتماع أمس تحقيق ثلاثة أمور:
أولاً: أنه المرجعية الفعلية للقوى المارونية التي تقف في فريق الحكم، وأن منطق الأمور على الأرض وفي الوقائع العامة يفرض أن يكون هو المرجعية وأن تعقد الاجتماعات عنده ووفق جدول أعمال له الدور الأساسي في وضعه، ويتولى هو النطق بشأن ما يدور من مواقف، وبالتالي فرض موقعه مرجعيةً حاسمة.
وفي هذا المجال، بدا أن أول المعترضين على هذه الصيغة هو الرئيس أمين الجميل، الذي يفترض أن على الآخرين من القادة الموارنة، وفي مقدّمهم جعجع، أن يأخذوا في الحساب أن نتائج الانتخابات الفرعية في المتن الشمالي كرّست الجميل المرجعية المارونية الأقوى في مواجهة العماد ميشال عون، ولذلك لم يكن الجميل مع فتح الاجتماع أمس على حدود غير قابلة للتسوية مع الآخرين، فاعترض على تثبيت فكرة اللجوء إلى النصف زائداً واحداً وحاول منع أي موقف رافض كلياً لتعديل الدستور. ثم أصر في الشكل على آلية تفرض مكان الاجتماع المقبل لهذه المجموعة (إذا عقد) في مكتبه أو في بيت الكتائب المركزي.
ثانياً: حاول جعجع تحويل النقاش من بعد سياسي عام إلى بعد فقهي، وهو ما يعطل الدور السياسي الذي برز للبطريرك الماروني نصر الله صفير. وهو في هذا المجال يعتقد أن الفريق الآخر وتحديداً الرئيس نبيه بري، قد نجح أولاً في تحييد بكركي عن الوقوف في وجه محاولات التوصل إلى تسوية من خلال إعلان صفير وقوفه إلى جانب نصاب الثلثين، ثم إن بري نجح في إقناع صفير بأن خطورة المرحلة تفرض فتح الخيارات وعدم إقفالها، وهو ما جعل صفير يقول في تصريحات للزميلة «السفير» إنه لا يعارض فكرة تعديل الدستور إن كان في ذلك إنقاذ للبلاد.
ثالثاً: أراد جعجع كشف التوترات القوية داخل الفريق الماروني في قوى 14 آذار لناحية عدم القدرة على توفير مرشح توافقي من النوع الذي يحظى بدعم الغالبية، وهو يسعى ضمناً إلى فرض أمر واقع، فإما أن تصل الأمور حدود المواجهة الكبرى ويكون هو الفرس، الأمر الذي يعني دفع الآخرين إلى ترشيحه رئيساً واضحاً لفريق 14 آذار، أو أن يكون له الدور الأبرز في اختيار المرشح. ويبدو أن بعض الذين لم يعجبهم اجتماع أمس لاحظوا أن هناك نوعاً من التنسيق بين جعجع والنائب بطرس حرب الذي فاجأ بعض الحاضرين وكذلك الرئيس بري بموقفه من النصاب. وفي هذا المجال كان لحرب دور في إقناع الحاضرين بأن المهم الآن نقل الملف من مرحلة المواجهة السياسية إلى مرحلة المواجهة الفقهية، وهو ما يقود في لحظة الصدام إلى القول بأن فريق 14 آذار أخذ باجتهاد يقول بالنصف زائداً واحداً، مقابل أخذ فريق المعارضة بالاجتهاد الآخر الذي يقول بالثلثين.
ومع أن الخلافات كبيرة بين أعضاء فريق المرشحين من موارنة 14 آذار، فإن الصورة لا تقف عند حدود التباين القائم حول من يدعم مَن مِن الدول الكبيرة، ويبدو أن مناخ المعارك الرئاسية يصيب البعض بنوع من التوتر حتى تختلط عليه الأمور وتغلب عليه التمنيات، مثل أن يقول أحد مرشحي 14 آذار إن الخلافات السورية ـــــ السعودية القائمة الآن سوف تعوق وصول النائب نسيب لحود باعتباره الأكثر مقبولية عند السعودية، أو إن النائب بطرس حرب خسر نفسه بسبب محاولته إظهار تمايزه عند البقية أمام الرئيس بري، وإنه أرسل إشارات باتجاه حزب الله، فيما هو يحتاج إلى تغطية جعجع التي تعفيه من الآخرين في الفريق نفسه، أو القول بأن الإدارة الفرنسية الجديدة أجرت مراجعة أظهرت أنه لا يمكن السير بمرشحين من «وسط فريق السلطة» في إشارة إلى الوزير شارل رزق... لكن كل ذلك لا يلغي أن الحافز الأساسي لاجتماع أمس، والقاسم المشترك الذي يقف خلف هذا الاستنفار هو قائد الجيش العماد ميشال سليمان، وأن تكون المواجهة معه من باب رفض تعديل الدستور أو على طريقة ما كتبه النائب غسان تويني أمس في «النهار» عن ضرورة أن يفصل سليمان بين دعمه قائداً للجيش وبين أن يسعى إلى تجيير هذا الدعم ليستثمره في معارك سياسية. وهو الكلام الذي سبق أن قاله النائب جنبلاط قبل أيام في «تعميمه اليومي» على أنصاره ومحازبيه من النواب والوزراء والإعلاميين.
يبقى أن جانباً من التوتر الذي يسود هذا الفريق يعود إلى كلام منسوب إلى أحد السفراء العرب من أنه سمع بمشروع حل يمكن أن تسير به المعارضة، ويقوم على قاعدة اعتبار البلاد الآن أمام خيارين: إما السير بتسوية انتقالية أو الذهاب نحو الانفجار، وإن التسوية الانتقالية تفرض الإتيان برئيس لمدة عامين، يصار خلالهما إلى «هضم التطورات» الجارية من حولنا قبل الإعداد لقانون انتخابي تجرى على أساسه انتخابات نيابية، يتم بعدها انتخاب رئيس بكامل الصلاحيات، وإن الإدارة المشتركة للبلاد تتم من خلال حكومة وحدة وطنية. وحسب ما هو منقول عن لسان السفير العربي نفسه، فإن الشخصية الوحيدة القادرة على إدارة هذه المرحلة الانتقالية هو قائد الجيش.
ومع ذلك، فإن العاقل من بين كل هؤلاء يقول: لننتظر عودة السفير الأميركي جيفري فيلتمان نهاية الشهر الجاري، وبعدها لكل حادث حديث.