جان عزيز
قلّة لا تزال تذكر اللقاء التاريخي في 18 أيار 2005، في طابق سفلي في وزارة الدفاع في اليرزة، بين منفي سابق اسمه ميشال عون وأسير محرَّر لاحق اسمه سمير جعجع.
قيل إن احتباساً أصاب عيونهما لحظة التلاقي، ولم يتحول ديماءً، نظراً إلى مكابرة الرجلين. فاستعيض عن الندى برعشة في اليدين المتصافحتين، وبنبض متسارع في القلبين الراعفين.
وقيل إن شريطاً طويلاً عمره ثلاثة عقود، مرّ في الخاطرين في تلك اللحظة. شريط بعض محطاته في سيدة البير، يوم كان الرجلان إلى جانب بشير، يبحثان في كيفية ضمان حل شامل لـ«القضية اللبنانية»، بمندرجاتها الثلاثة: سيادة الدولة على أساس الكيانية اللبنانية، وتوازن جماعاتها على أساس التعددية الحضارية الشهيرة، وحريات إنسانها، على أساس الحرية الشخصية الكيانية المسؤولة، كما كان يعلّم، ويعلّمهما شارل مالك، الذي تباهى وليد جنبلاط بدفن لبنانه.
والشريط نفسه فيه صور التلاقي بين الرجلين، ابني أحزمة النضال المسيحي حول العاصمة، وابني الفلاحين الآتيين إلى الشأن العام من مفاهيم التطلّب الإنجيلي، وابني المؤسستين الوحيدتين اللتين كسرتا الـ «استابليشمانت» المسيحي للنظام اللبناني، فخرجا من بندقية الشرعية، أو من بندقية الثورة، ليخرجا على إقطاع بشري والكتائب في حالة، كما على كل «الفخار السياسي» في حالة ثانية.
وفي شريط 18 أيار صور الافتراق والتباين في محطات كثيرة بين الرجلين، وصولاً إلى الصدام الجبهي الكامل في 31 كانون الثاني 1990.
وقيل إن هذه الصورة الأخيرة هي أكثر ممّا حضر وطغى في مقابلة اليرزة ذاك الصباح. حتى أن كلاً من الرجلين لمّح إلى الآخر بأنه في «صحرائه» المعبورة طويلاً قبل هذا اليوم، أعاد قراءتها وتحليلها وفهمها وإدراكها. والأهم أنه استخلص العبر والدروس والأمثولات. وفي طليعة هذه أن الحقيقة الثابتة في الصراع الوجودي للجماعات الكيانية، هي أنه «ذبح الثور الأبيض عندما ذبح أخوه الأسود».
لم يقلها أي من الرجلين صراحة. لكن هذه المعادلة كانت قد أضحت في بديهيات رفاقهما، وخصوصاً أولئك الذين لم يهربوا ولم يكذبوا ولم يتقلبوا طوال أعوام النفي والأسر.
ففي النهاية، يوم كانت دماء عماد عبود تلاقي الغدر بفوزي الراسي ورمزي عيراني، ويوم كانت جراح أميمة طراف تعانق لوعة والدة بيار بولس بوحيدها، كان الآخرون، كل الآخرين، في جنة السلطة، أغناماً بلدية لدى الراعي الإقليمي. وحدها أسماء مجهولة، لا يعرفها إلّا أصحابها، كانت ترفض وتقول: لا.
وحدها جزمة الوصاية الثقيلة طهّرت وجدانهم وغسلت الخطأ والخطيئة، وجمعتهم في «ريو» واحد، أو الهنغار نفسه.
تحت شمس السجون، أو في ظلمة سراديب المعتقل، أو بين اللحم الحي والهراوة وعقب البندقية وجنزير «البلانكو»، اكتشفوا خطأ «الطائف». لا خطأ الاتفاق والوثيقة والنص والعيش المشترك، بل خطأ الرهان على هزيمة أي لبناني في مواجهة أي غريب، من أجل وراثته وملء الفراغ الذي يخلفه انكساره.
يروي العارف كريم بقرادوني عن أحداث عام 1990، أن عون وجعجع كانا يدركان أنهما في نزاع لن يرثهما فيه، إلا طرف ثالث. قال الجنرال لكريم بالحرف: قل له إنه إذا ربحت أنا المعركة فهو سيخسر. وإذا خسرت أنا المعركة فهو سيخسر أيضاً. وقال قائد «القوات» له: سيخرج عون، ولن يدخل السوريون، ونعيد بناء الدولة. وبين الاثنين كان جون مكارثي محرضاً وبابلو بوانتي ساعياً على غير هدى، وبكركي عاجزة، حتى التهويل بالحرمان الكنسي.
وصح الحساب، سقط الرجلان، بعدهما سقط المسيحيون. ومعهما سقط لبنان، كما في كل مرة تسقط أي جماعة من جماعاته، أياً كان اسمها أو رقمها في تراتبية الميثاق أو عدد أفرادها مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين. ورث الطائف السوري ـــ السعودي ـــ الأميركي نضالات ميشال عون وسمير جعجع، وورثت «سيبة» غازي كنعان ـــ رفيق الحريري ـــ جيمس بيكر، تضحيات كل رفاقهما.
بعد 17 عاماً على المأساة، تعود معالمها لترتسم ثانية، ملهاة مهزلة هذه المرة، كما يقول ماركس عن تكرار التاريخ نفسه لدى الشعوب التي لا تتعلّم. صراع بين المسيحيين السياديين، يذهب في إلغائيته حتى التدمير الذاتي، وحتى التمهيد لوراثته من غيرهم، من خصومهم، ومن الذي راهنوا طويلاً على تدميرهم وأملوه وعملوا له.
البعض في الطرف الأول يقول: لكننا هذه المرة على حق. فخيار ميشال عون يخالف العداء التاريخي بين الوجدان المسيحي والنظام السوري، وينذر بتضييع فرصة التلاقي مع سيادية سنية ودرزية مكتشفة ومستحدثة، ويهدد بطغيان مشروع شيعي أكبر من لبنان.
والبعض من الطرف الثاني يقول: ونحن هذه المرة على حق أيضاً. فخيار سمير جعجع يكرس دونية المسيحيين في بنية النظام، ويشرع سيادتنا الفتية لصراع إقليمي سينتهي إلى إطاحتها، ويسلم بكارثة أن المسيحي الأقوى لا يصل إلى موقعه الأول، ثم من سيعود بحاجة إلى الكلام معه، أو مع أي مسيحي آخر، بعد «الانتهاء» من ميشال عون؟!
بين المنطقين، ثمة وريث ثالث من غير الذين ناضلوا وضحوا وبذلوا ومن غير الذين نفوا أو اعتقلوا، يتحضر لحصر الإرث.
تماماً كما الياس الهراوي الذي اعترف به سمير جعجع بخط يده، قبل أن يضرب عون وجعجع بعضلات غازي كنعان ودباباته وتصفيق وليد جنبلاط ورصانة رفيق الحريري.
فهل تتكرر المأساة الملهاة؟