جان عزيز
تعتقد جهات روحية على صلة بالسياسة الخارجية الفرنسية، أن القراءة الدقيقة والعميقة لمضامين خطاب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في مؤتمر سفراء فرنسا قبل يومين، لم تُجرَ بعد لبنانياً، ولم تعطَ الأهمية اللازمة لها.
وتكتفي هذه الجهات بالدلالة على ثلاث مسائل تناولها الخطاب، أو يمكن استقراؤها فيه وعبره، للتأشير إلى الأبعاد البالغة الدلالة للموقف الفرنسي الجديد. والمسائل المقصودة هي تلك المتعلقة أولاً بفرنسا الأمس، وثانياً بأميركا اليوم، وثالثاً واستنتاجاً، بلبنان الغد. علماً أن ثمة مسائل أخرى تناولها ساركوزي في خطابه، لا تقلّ أهمية عن المذكورة، لا بل تمثّل عوامل ربط وتفاعل بينها. غير أن اختصار البحث يقتضي التوقف عند هذه الأسئلة الثلاثة: كيف نظر الرئيس الفرنسي إلى سياسة بلاده الماضية، وكيف ينظر إلى سياسة حليفه الأميركي الراهنة، وبين الاثنين، كيف يمكن التطلّع انطلاقاً من ذلك إلى لبنان المستقبل، من زاوية وجهة النظر الباريسية؟
في المسألة الأولى، تلاحظ الجهات نفسها أن الرئيس الفرنسي كال سيلاً من الانتقادات اللاذعة لإدارة بلاده السابقة، لكنه صاغها بأسلوب متحفّظ أقرب إلى اللغة الدبلوماسية، والمقام المقصود بالمقال، يقتضي ذلك. فهو تحدث بداية عن أن سياسته «تقودها القيم»، وأنها «تستند إلى رؤية واضحة للعالم». بما يذكّر بالانتقادات التي حفل بها خطاب ساركوزي الانتخابي في مواجهة الحقبة الشيراكية البائدة. وفي صيغة الكلام المقارن الكامن، راح الرئيس الفرنسي الجديد «يفضح» أكثر سياسات مَن سبقه، فأكد أنه «من الذين يعتقدون أن سمة رجل الدولة هي إرادة تغيير مجرى الأمور»، متحدثاً عن «فرنسا كبيرة ومسموعة»، وعن «برنامج واضح ومفصّل» وعن «فرنسا أقوى في داخلها، لأن هذا هو شرط تأثيرها خارج حدودها».
وبلغ الانتقاد الساركوزي للعهد الشيراكي حدّ الحديث الواضح عن «القطع النهائي مع الممارسات السابقة». معلّلاً هذا «القطع» بأنه يريد فرنسا حاملة «رسالة» في العالم، وحاملة «قيم».
وإذا كان هذا الموقف التصحيحي لسيد الإليزيه الجديد، حيال اثني عشر عاماً من الحكم الشيراكي، قد ظلّل خطابه كاملاً، فهو مثّل أيضاً الخلفية الأساسية لمقاربة المسألة الثانية: العلاقة الفرنسية ـــــ الأميركية.
في الموقف من واشنطن لم يتردد ساركوزي منذ الأسطر الأولى من خطابه، في إعلان التمايز، مؤكداً أن «زعماء الأعوام العشرين الأخيرة، لم ينجحوا في خلق نظام أرضي جديد، ولا في تكييف النظام السابق بشكل فعّال». ثم راح يبسّط تمايزه المعلن عن الإدارة الأميركية: «أن نكون حلفاء، لا يعني أن نكون مصطفّين، وأجدني حراً بالكامل للتعبير عن تفاهماتنا كما عن خلافاتنا، من دون ممالأة ولا محرّمات». قبل أن يوجّه ساركوزي انتقاده الصريح والمحدّد إلى السياسات الأميركية: «في مواجهة أزمات دولية مثل أزمة العراق، لقد ثبت اليوم أن اللجوء الأحادي إلى القوة يقود إلى الفشل».
غير أن التمايز الأبرز والأكثر جوهرية حيال إدارة جورج بوش ورؤيتها للعالم، قدّمه الرئيس الفرنسي في عرضه للتحديات الرئيسية التي يواجهها العالم اليوم، وهي موقعة على انتقاد الأداء الأميركي في مختلف أنحاء الأرض وشجونها: «كيف نتجنّب مواجهة بين الإسلام والغرب»، كيف ندمج القوى العظمى الناشئة: الصين، الهند والبرازيل، وكيف نواجه الأخطار الحديثة: الاحتباس الحراري والأمراض وندرة موارد الطاقة. علماً أن الإدارة الأميركية موضع انتقاد عالمي في كل من هذه المجالات.
وإذ كوّن هذا التمايز الفرنسي عن الإملاءات الأميركية، الإطار العام لعرض سياسة ساركوزي الخارجية، من أوروبا إلى تركيا، إلى الأطلسي وروسيا، فإن تجلياته الأكثر تعبيراً ظلّت في مقاربة قضية الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، ونزاعات الشرق الأوسط، وبالتالي النظرة إلى المسألة اللبنانية.
فهو على سبيل المثال، وفي سياق حديثه عن تشجيع الإسلام المعتدل، لتجنّب أي صراع بين الغرب والإسلام، عرض لنماذج «الاعتدال والحداثة» الموجودة في مجتمعات المغرب والجزائر وتونس والأردن. ويلاحظ بالتالي أنه لم يتبنّ نظرية «استقرار الأنظمة» التي عادت إليها واشنطن منذ عامين، والأهم أنه لم يسمّ «عرب أميركا» الأساسيين وفي طليعتهم السعودية ومصر.
وفي هذا السياق برزت مقاربة ساركوزي اللبنانية، رداً على المقولات الأميركية في عدد من النقاط الأساسية، ومنها:
ـــــ الصداقة الفرنسية ــــ اللبنانية ليست موجّهة نحو مجموعة أو فئة، فرنسا صديقة جميع اللبنانيين.
ـــــ لا ذكر إطلاقاً لحكومة فؤاد السنيورة ولا لدعمها الذي تحوّل لازمة في الخطاب الأميركي.
ـــــ لا ذكر إطلاقاً لقضية سلاح «حزب الله»، كما تصرّ عليها واشنطن، في مقابل انتقاد «حماس».
ـــــ التأكيد على تعاون كل اللاعبين الإقليميين ومنهم سوريا، لتسهيل الحل اللبناني.
ـــــ الإشادة المفرطة بدور وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير، وذكره أربع مرات في الخطاب، رداً على الغمز الأميركي ـــــ واللبناني ـــــ من قناة دوره ومبادرته.
ـــــ لا ذكر إطلاقاً لتيار الحريري من بين القوى الإسلامية المعتدلة.
ـــــ التأكيد على أن «الحوار الذي انطلق، يجب أن يستمر للوصول إلى مخرج من الأزمة».
هل يكفي هذا التعداد للاستنتاج بأن انقلاباً فرنسياً قد أنجز إزاء الوضع اللبناني والسياسة الأميركية فيه والأداء الفرنسي السابق؟ طبعاً لا، لكنه يكفي للتذكّر كم كان جاك شيراك مخطئاً في وصفه وزير داخليته السابق بلقب «نيكولا الصغير». ففي بعض الأحيان ـــــ وبعضها كثير في السياسة ـــــ تكون القيمة الشخصية على عكس قامات الأشخاص.