نقولا ناصيف
لا الرئيس إميل لحود ولا أي من أقطاب المعارضة يتحدّث عن حكومة ثانية، أو يبدي حماسة لها. لكنهم لا يسقطون خيارها من الحساب. بل تبدو الوجهة المعلنة حالياً للطرفين، الحضّ على تأليف حكومة وحدة وطنية ومنح الجهود العربية والدولية مزيداً من الحظوظ لإطلاق حوار وطني يفضي إلى تأليف حكومة الوحدة الوطنية. ذاك ما هو طاف على سطح الماء. بدورها قوى 14 آذار اتخذت مساراً مماثلاً. تتمسّك بالحوار وتأييد المساعي، لكنها لا ترغب في التخلي عن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وثلثي نصابها. وهكذا الكل يكذب على الكل، والداخل يكذب على الخارج. وفي نهاية المطاف تواجه قوى 14 آذار المعركة الأخيرة التي هي انتخاب رئيس جديد للجمهورية من صفوفها، ويواجه لحود والمعارضة المعركة الأخيرة على أساس أنها ستقلب التوازن القائم رأساً على عقب. ومن غير أوهام حيال الجوانب الإيجابية التي يحرص رئيس الجمهورية على إبرازها في تأكيد إصراره على إنهاء عهده بحكومة الوحدة الوطنية وتفادي تقسيم البلاد، وفي الوقت نفسه استلهام صلاحياته الدستورية، فواقع الأمر أن ما يلتقي حوله لحود والمعارضة، بتباين محدود، هو أنه لن يسلم حكومة السنيورة الحكم عندما يغادر منصبه إذا تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية، ولن تسلّم المعارضة للغالبية بانتخاب رئيس من صفوفها يجعلها تمسك كلياً بكل مفاصل الحكم وتفرض الرئيس المنتخب أمراً واقعاً إلى طاولة التفاوض.
على أن ما يلتقي عليه الموالون والمعارضون هو عدم استعجال الاشتباك السياسي في الشهرين المقبلين، على أن يدخلا المواجهة الفعلية منذ النصف الثاني من أيلول. الأمر الذي يتحفّظ عنه رئيس الجمهورية الذي يفضّل الدخول باكراً في مرحلة الخيارات الضيقة والصعبة، وتحديداً من النصف الثاني من الشهر الحالي.
هذه المعطيات باتت مثار تداول جهات دبلوماسية معنية مباشرة بالوضع اللبناني وتطوراته وبحكم صلتها المباشرة بمجلس الأمن. وهي تضع المعطيات هذه قيد المناقشة والتقويم في أوساطها، ومع سياسيين لبنانيين تصغي في الغالب إليهم وتستمزج أراءهم. وتركز خصوصاً على ملاحظات، منها:
1 ـــــ عدم استبعاد تأليف حكومة ثانية ستتمكّن بحكم الأمر الواقع من فرض سلطتها على مناطق واسعة من الأراضي اللبنانية، ولا سيما منها البقاع والجنوب والضاحية الجنوبية وقضاء زغرتا وقسم من الشمال وقسم من بيروت. الأمر الذي يضعها في بعض المناطق على تماس مباشر مع حكومة السنيورة، سينعكس حكماً على التسابق إلى وضع اليد على المؤسسات والإدارات والمصالح الرسمية، وعلى مخافر قوى الأمن التي ستمسي عندئذ مربكة بين تلقي الأوامر من سلطتها المركزية والرضوخ لسلطة الأمر الواقع. إلا أن ما يقلق الجهات الدبلوماسية المعنية أن الحكومة الثانية، تبعاً لمواقع نفوذ قواها، هي التي ستكون على تخوم الحدود اللبنانية ـــ السورية والحدود اللبنانية ـــــ الإسرائيلية وإن كانت هذه في ظل القرار 1701 والقوة الدولية في الجنوب. والواضح أن الحدود الشرقية والجنوبية هما اللتان تضعان لبنان في قلب معادلة النزاع الإقليمي، بين إحدى حافتي الاستقرار والفوضى.
2 ـــــ وقوف الجيش على الحياد في الصراع السياسي الداخلي بما في ذلك انتخابات رئاسة الجمهورية. وعلى وفرة إشادات بدور الجيش في مخيم نهر البارد تحدّثت عنها الجهات الدبلوماسية المعنية، فإن مواقف نسبت إلى قائده العماد ميشال سليمان في الفترة الأخيرة عبّرت عن حجم القلق من آثار بقاء الجيش على الحياد، وخصوصاً على التوازن السياسي الداخلي. ومما نُسب إليه في هذا السياق أخيراً، وهو نفسه ما كان ردده في كانون الثاني وشباط المنصرم على أثر الإضراب العام ثم الاعتصامات، أن من واجب المؤسسة العسكرية حفظ الأمن والاستقرار وحماية المنشآت والمؤسسات العامة، لكن الجيش لا يتدخّل إذا دخل متظاهرون وزارات وإدارات عامة لإخراجهم منها بالقوة. وهي إشارة ضمنية إلى موقف غير مرض لحكومة السنيورة يستبعد إقدام الجيش على قمع الحكومة الثانية ومنع أنصارها من التحرّك. والواقع أن الجيش يتصرّف بين حكومة قائمة وأخرى قد تنشأ على أنه سلطة ثالثة تقارب الأحداث تبعاً لقياس المصلحة الوطنية الذي تقدّره القيادة. وتتقاطع هذه المعطيات مع أخرى تصب في منحى مماثل أوردها تقرير دبلوماسي من واشنطن وصل إلى جهات لبنانية نافذة، وتناول مواقف متداولة في الدوائر المعنية بالشأن اللبناني في الخارجية الأميركية، تؤكد بدورها حجم الاهتمام الأميركي، وأبرزها:
ـــ تعبّر الخارجية الأميركية عن ارتياح كامل إلى العلاقات التي تعمل على تنظيمها مع الحكومة الفرنسية الجديدة، وخصوصاً أن جان دافيد ليفيت المستشار الدبلوماسي للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي شغل منصب السفير الفرنسي في واشنطن في عهد الرئيس جاك شيراك يعرف الأميركيين عن قرب وطريقة عملهم والأسلوب الذي من شأنه طمأنتهم إلى ثوابت السياستين الأميركية والفرنسية حيال لبنان. ولفت التقرير إلى نتائج إيجابية أفضت إليها زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس لباريس في 24 حزيران الفائت نتج منها تطورّ ملموس في الموقف الفرنسي من لبنان وسوريا ميّز ما كان قد قاله ساركوزي في قمة الثماني في 8 حزيران عن حوار دبلوماسي محتمل مع دمشق، وبين إقفاله أبواب الحوار معها في المرحلة الراهنة وتأييد قوى 14 آذار. واستندت الطمأنة الأميركية إلى الموقف الفرنسي إلى تفهّم واشنطن مغزى مبادرة وزير الخارجية برنار كوشنير حيال طاولة حوار لبناني، وهو أن الإدارة الفرنسية الجديدة بدت متحمسة أكثر مما يقتضي قبل أن تتدارك خطأ الحماسة تلك. وتبعاً لما يورده التقرير الدبلوماسي، فإن سوء التفاهم الذي أحاط بالعلاقات الأميركية ــــ الفرنسية لوقت قصير بات من الماضي. ويعتقد أن الاجتماع الذي يُعقد على مستوى تمثيلي متدنّ لن يقود إلى أكثر مما يحتمل، فضلاً عن الخارجية الأميركية وجدت في مبادرة كوشنير عملاً ساذجاً وصفه التقرير بأنه يشبه «مَن يطلق النار بلا هدف».
ـــ رغم معرفة واشنطن بأن خبرتها في ترسيخ الديموقراطية في العراق تبعث على الشكوك والإحباط، فهي مصممة على دعم الديموقراطية في لبنان، وخصوصاً حكومة السنيورة التي نجحت في إحراز أكثر من انتصار سياسي ودبلوماسي أكسبها صدقية لدى المجتمع الدولي.
ــــــ مع أن الإدارة الأميركية تنظر إلى موضوع المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري على أنها سحبت من طاولة التجاذب وأعفي لبنان منها، تلاحظ الدبلوماسية الأميركية أن ليس لدى إسرائيل تفضيل محدد حيال ما يجري في لبنان. وإذ تتفهم تل أبيب مخاوف دمشق من المحكمة الدولية ـ يقول التقرير الدبلوماسي ـ فإن الإدارة الأميركية عبر دعمها هذه المحكمة ومضيها في الآلية التي حددها لها مجلس الأمن ترمي إلى توجيه رسالة صارمة إلى سوريا، هي أن عليها أن تتيقن أنها لا تستطيع قتل رئيس للحكومة اللبنانية بلا عقاب واقتصاص. ويبدو، بحسب ما يلمّح إليه التقرير، أن إسرائيل لا تجنح إلى تأييد وجهة النظر هذه. وخلافاً لما تقول به واشنطن، فإن من غير المستبعد أن تتساهل إسرائيل حيال دور ما لسوريا في لبنان.