نقولا ناصيف
بعد سنة على حرب 12 تموز 2006 بين حزب الله وإسرائيل، انزلق لبنان إلى مزيد من التدهور السياسي والأمني، من غير أن تلوح في الأفق، حتى الآن على الأقل، سوى أوهام آمال. وفي واقع الأمر فإن النتائج السياسية لحرب 12 تموز، لا وقائعها العسكرية فحسب، دفعت نحو توسيع الشرخ الداخلي. وهو ما يمكن إبرازه في الملاحظات الآتية:
1 ـــــ الانقسام الحاد على تقويم نتائج هذه الحرب وتعريف الرابح فيها والخاسر وفق المعيار المستقل الذي حدّده كل من طرفي النزاع، أي قوى 14 آذار وحزب الله. وهما لم يكتفيا بآثار تلك الحرب، بل دفعهما السجال إلى الانتقال من التقويم المتعارض لتلك الآثار إلى ابتكار أسباب أخرى للخلاف والانهيار. ولأن حزب الله عدّ نفسه رابحاً في حرب 12 تموز، انتقل بالمواجهة إلى الداخل عبر مطالبته بحكومة وحدة وطنية مع ثلث معطل للمعارضة تمثل توازن القوى الجديد بعد حرب الجنوب. ولأن الغالبية اعتبرت الحرب تلك تقويضاً لمشروع الدولة المستقلة عن سوريا وأصرّت على فك ارتباط لبنان بالصراع العربي ـــــ الإسرائيلي والسوري ـــــ الإسرائيلي هاجمت بعنف سلاح الحزب وحمّلته تبعة الدمار، وتشبثت بغالبيتها وسط توازن القوى السياسي الداخلي.
ثمرة لذلك كله، تصاعدت نبرة التشنج والاتهامات المتبادلة بالتخوين والتبعية وآلت إلى استقالة الوزراء الشيعة الخمسة من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، والاعتصام المفتوح وسط بيروت، واستخدام الشارع لإسقاط الحكومة، واندلاع نزاع مذهبي سني ـــــ شيعي في الأشهر التالية، وانفجار الخلاف على إقرار المحكمة الدولية. وأدّت هذه التطورات إلى إدخال الوضع اللبناني المتفاقم في دائرة نزاع سعودي ـــــ إيراني اكتفى بالتنبه إلى خطر الصراع المذهبي. والواضح من تعاقب هذه الأحداث أن حرب 12 تموز أفضت إلى بناء توازن قوى سياسي جديد يترجح بين قوى 14 آذار والمعارضة، يربح أحدهما جولة ثم ينكفئ في الجولة الثانية لمصلحة الطرف الآخر. وفي حصيلة الأمر، تحت وطأة التجاذب السعودي ـــــ السوري والسعودي ـــــ الإيراني والأميركي ـــــ السوري، أضحى الوضع اللبناني أسير نزاع إقليمي يكاد يكون غير قابل للحل. والأحرى أنه أدخل إيران في قلب المعادلة اللبنانية أكثر من أي وقت مضى، بعدما تيقن جميع الأفرقاء من امتلاك حزب الله سلاحاً إيرانياً متطوراً هدّد الداخل الإسرائيلي. وبطريقة ما أصبحت إيران، من خلال الحزب وترسانته، على خط تماس مع الدولة العبرية.
2 ـــــ سواء صحّت الاتهامات التي سيقت إلى حزب الله بأنه استفز إسرائيل، وأدخل لبنان في أتون حرب مدمرة لاقتصاده ومنشآته وحتى لوحدته الطائفية وتماسكه المذهبي، أو صحت الاعترافات الإسرائيلية المتتالية بأن خطة مهاجمة الحزب كانت مقررة سلفاً وتنتظر الذريعة المناسبة، فإن انتهاء حرب 12 تموز بالقرار 1701 مثّل مجموعة وقائع جديدة أبرزها وضع حدّ نهائي لمقاومته في مزارع شبعا وعند الخط الأزرق، وتخلّيه عن مظاهره المسلحة العلنية جنوبي نهر الليطاني مع انتشار آلاف من الجنود اللبنانيين والدوليين، وإعادة شرعية الحكومة اللبنانية إلى هذه المنطقة من خلال ما نصّ عليه القرار، وهو بسط سيادة الدولة اللبنانية على أراضيها ومنع أي سلاح غير شرعي عليها. كان المقصود بذلك ضمناً تجريد الحزب من سلاحه داخل المنطقة الزرقاء، حيث عمل القوة الدولية. بيد أن أياً من الأثمان السياسية الأخرى، الملازمة للقرار 1701، لم يتحقق: لم يوضع اتفاق الهدنة مع إسرائيل لعام 1949 موضع التنفيذ، ولا انتقلت مزارع شبعا إلى سلطة الأمم المتحدة ولا سلّم أحد بلبنانيتها. وأتى سجال الأيام الأخيرة بين الأمم المتحدة وإسرائيل ليعبّر مجدداً عن استمرار الخلاف على هوية المزارع. فالتسليم بلبنانيتها يبرّر استمرار المقاومة، واعتبارها سورية يربطها بالتسوية الإقليمية، واعتراف سوريا بلبنانيتها يحتم إبرام وثائقها لدى الأمم المتحدة لحمل إسرائيل على الانسحاب منها، إلا أن ذلك يرسم للمرة الأولى حدوداً دولية لبنانية ـــــ سورية لا تزال دمشق تحجم عن القبول بترسيمها. وفي هذا المكان بالذات تكمن المشكلة التي يحاول القرار 1701 تذليلها في مسألة الفوضى عند الحدود اللبنانية ـــــ السورية وتهريب الأسلحة والمسلحين عبرها.
إلا أن الوجه الآخر لوضع جنوبي نهر الليطاني تحت مظلة الأمم المتحدة لقطع دابر نفوذ عسكري لحزب الله على الحدود اللبنانية ـــــ الإسرائيلية أدّى، بعد سنة، إلى نتيجة معاكسة إثر التفجير الذي استهدف الكتيبة الإسبانية في القوة الدولية في الجنوب قبل أسبوعين. وبيّن ذلك الحاجة مجدداً إلى دور أمني لحزب الله في منطقة عمليات القوة الدولية لا يجعله بالضرورة يستعيد نفوذه السابق، بل يجعله شريكاً للقوة الدولية التي واجهت إحدى كتائبها امتحاناً قاتلاً. وفي خلاصة استعادة هذا الدور: بالتنسيق بينه وبين القوة الدولية، تحوّل حزب الله من طرف، كإسرائيل، مدعوّ إلى احترام القرار 1701 والتزامه، إلى شريك معني بحماية تنفيذه ومؤازرة القوة الدولية وحمايتها هي أيضاً من اعتداءات تستهدفها من أطراف سلفيين أو فلسطينيين أو سواهم. وعلى نحو حاجة الدول المشاركة في القوة الدولية، وأخصّها الأوروبية، إلى موافقة الحزب على انتشار كتائبها في بيئته، كما حصل عند تنفيذ القرار في آب 2006، استرجع حزب الله أخيراً الدور الأمني عبر تزويد الكتائب الدولية المعلومات الكفيلة مساعدتها في إنجاز مهمتها، ومراقبة المنطقة ومنع التسلل إليها، وتعريض الحدود مع إسرائيل للاضطراب.
3 ـــــ رغم أن حرب 12 تموز وضعت قرار الحرب مع إسرائيل فعلياً في يد حزب الله، وهو السبب الذي حمل خصومه في قوى 14 آذار على رفض تسليمهم بهذا الواقع، المدمّر في نتائجه غير المدروسة، فإن صدور القرار 1701 لم يضع بالضرورة الاستقرار في يد حكومة السنيورة. ومع أن الجنوب استمر منذ وقف العمليات العسكرية في 13 آب 2006 في منأى عن الاشتباك السياسي الداخلي، فإن أياً من طرفي النزاع لم يستطع حسم الصراع لمصلحته: لا حكومة السنيورة بدعم غير مشروط من المجتمع الدولي وإن محدود الفاعلية في اللعبة الداخلية، ولا حزب الله الذي أصبح أكثر تسلّحاً من غير أن يتمكن ـــــ بعد ـــــ من استخدام هذا السلاح. وذلك ما عبّر عنه في الشهرين الأخيرين سجال حاد حيال البنود السبعة التي كان قد طرحها السنيورة في مؤتمر روما في تموز 2006، ثم أدمجت في القرار 1701 ما خلا البند الذي يتناول حصر السلاح في يد الشرعية اللبنانية، الأمر الذي رفضه الحزب بأن أعلن التزامه تنفيذ القرار 1701، ورفضه الخوض في ما بقي من البنود السبعة وتحديداً مصير سلاحه. وفي واقع الأمر يبدو كل من طرفي النزاع كأنه يريد استخدام نتائج حرب تموز في المنحى الذي يرجّح كفته في المعادلة الداخلية.