إبراهيم الأمين
لم يخرج المشاركون في لقاء سان كلو بفكرة جديدة. وما عدا موقف التكتل الطرابلسي من نصاب جلسة انتخاب الرئيس، فإن المتحاورين تعرفوا من جديد الى ما يعرفونه على مستوى المواقف. كما تأكدوا من ثبات كل منهم على موقفه. وإن توقع ما هو أفضل يحتاج الى ضغوط من أمكنة ليست متوافرة كلها في لبنان. صحيح أن في فريق 14 آذار من لم يكن راغباً في اللقاء من أصله، وخرج من الاجتماع شامتاً بالدبلوماسية «المغرورة» لبرنار كوشنير، إلا أن المعارضة التي تعاونت بقصد توسيع آفاق التعاون مع فرنسا، لن تجلد نفسها إذا لم يخرج المؤتمر بنتائج استثنائية. علماً بأن ما حققه طرف بارز في المعارضة، وهو حزب الله، من مناخ المؤتمر، يعد بحد ذاته إنجازاً دبلوماسياً ربما أتى في غير وقته بالنسبة إلى فريق السلطة، بينما كانت له آثاره الايجابية على أكثر من صعيد بالنسبة إلى قوى المعارضة.
من جانب العماد ميشال عون، فهو لم يكن أصلاً في موضع امتحان من جانب حزب الله في موقفه منه. لقد سبق لعون وللتيار الوطني الحر ترجمة احترام التفاهم مع حزب الله في ما حصل أثناء العدوان الاسرائيلي على لبنان الصيف الماضي وبعده. لم يبق من يومها واحد في حزب الله أو في جمهوره داخل لبنان وخارجه إلا ألزم نفسه بدين تجاه هذا الرجل وتجاه أنصاره. لكن العماد عون كان قد وضع من قبل فرنسا كما الولايات المتحدة ودول عربية وغربية اخرى تحت الضغط من زاوية أن علاقته بهذه العواصم سوف تتأثر سلباً بعلاقته مع حزب الله، وهو شرح في زيارته الاخيرة الى باريس البعد السياسي والاجتماعي والاخلاقي لتفاهمه مع حزب الله. لم يكن أمام جميع محاوريه إلا أن يحدثوه عن الدور الاقليمي للحزب من زاوية إثارته ودفعه الى تعديل موقفه. وهو دافع انطلاقاً من إدراكه أن منطق الشراكة في لبنان يستلزم تفاهمات من هذا النوع، وقال إنه مستعد لتوسيع الأمر باتجاه من يقدر على التقدم صوبه كما فعل حزب الله. وأبدى رغبته وحماسته لو أن الأمر نفسه يحصل مع تيار «المستقبل» وحتى مع الحزب التقدمي الاشتراكي، لو أدرك هؤلاء ومن معهما أهمية حصول تفاهمات من هذا النوع، وخصوصاً ان بين يدي عون ورقة مهمة في هذا المجال، هي نقاط التفاهم التي أقرت في لجنة الحوار الوطني في حضور قادة البلاد. وهي نسخة طبق الاصل عما ورد في بيان التفاهم بين عون وحزب الله حول مستقبل لبنان والعلاقات مع سوريا وسلطة الدولة.
وعندما ارتكب نيكولا ساركوزي الخطأ نفسه مع حزب الله، لم يبرز الى السطح سوى سرور السفير في بيروت برنار إيمييه، الذي فهم الأمر على شكل رسالة حفزته على ارتكاب «فاول» المختارة. عندما بادر إلى إعلان أن بلاده تقف الى جانب فريق من اللبنانيين دون الآخرين، ولكن الذين يدرسون مع ساركوزي مستقبل السياسة الخارجية في الشرق الاوسط، انتبهوا الى أن ما نقل عن لسان رئيسهم حيال حزب الله لا يمر مرور الكرام، حتى إن أحد الدبلوماسيين قال كلاماً كبيراً عن هذه المسألة: إذا كانت ضغوط الولايات المتحدة وإسرائيل وحادثة اغتيال النائب وليد عيدو قد منعت تسريع الاتصال بسوريا، فإن الأمر لا يتكرر مع حزب الله. ثم أكثر آخرون من الكلام الذي يعكس آلية تفكير: حزب الله قوة لا يمكن تجاوزها في لبنان، وحزب الله قوة ضامنة لوجود جنودنا في الجنوب، وحزب الله شريك محتمل في مواجهة الإرهاب الأصولي الذي بدأ يطل برأسه في لبنان، وحزب الله قوة قادرة على تعطيل أي مبادرة تقوم بها أي دولة عربية أو أجنبية في لبنان، وحزب الله قوة تتمتع بحضور جدي في إيران، وقد لمس الموفد الخاص جان كلود كوسران، في زيارتيه الأخيرتين الى طهران، أنه لا مجال للحصول على أمر عمليات يمكن فرضه على حزب الله كأنه أداة، لا بل لمس مباشرة أن ما يمكن أن يحصل من تفاهم مع الايرانيين على مسائل تخص لبنان، يحتاج الى مصادقة فعلية لا شكلية من بيروت، كما أن حزب الله له قدرة كبيرة على التأثير في ملفات كثيرة في المنطقة من فلسطين الى العراق وما بينهما. وبالتالي فإن محاولة إرضاء تجمعات يهودية فرنسية من خلال إدانة حزب الله تبدو تعبيراً ساذجاً في السياسات الكبرى. وأهم من كل ذلك، فإن قرار عدم إدراج اسم حزب الله على اللائحة الاوروبية للمنظمات الارهابية، لا يمثل قرار إدارة دون أخرى، ومهما قيل عن فضل الرئيس السابق جاك شيراك في منع حصول هذا الأمر، فإن نظام المصالح الاستراتيجية لفرنسا يفرض عدم حصول أمر من هذا النوع.
ومع ذلك، فإن ما حصل، ولو بالشكل، أدى الى انتزاع موقف فرنسي من الحزب يمثّل قوة داعمة لموقف العماد عون مثلاً، كما يمثل بالنسبة إلى الحزب انتصاراً دبلوماسياً من النوع الذي يدفع ثمنه في العادة، حتى لو غضب الفرنسيون من صورتهم التي بدت باهتة وهم يطاردون الحزب من مداخله المباشرة ومن مداخل الحلفاء في لبنان وإيران لأجل عدم إعلان الطلاق ربطاً بالموقف، وصولاً الى الاعتذار الذي بدت فيه فرنسا دولة تملك هامشاً ضيقاً من المناورة، وهو الانطباع الذي قام أصلاً منذ مدة طويلة. وإذا كانت فرنسا مضطرة إلى القيام بخطوة من هذا النوع لأنها تعرف مصير مصالحها في أمكنة عدة، فإنه يمكن فهم كيف أن زيارة لكوندوليزا رايس من شأنها قلب الأولويات رأساً على عقب.
وبهذا المعنى فإن النتيجة الأبرز للقاء سان كلو كانت في ما انتهت إليه العلاقة بين فرنسا وحزب الله، وهي العلاقة التي سوف تكون قابلة للاستثمار الفعلي مع كل قوى المعارضة، وسوف يجد العماد عون في ما حصل نقطة إضافية في حسابه حتى عند الفرنسيين الذين لمسوا لمس اليد أن في لبنان قوة قادرة على التحاور مع «حزب الله» والتوصل معه الى خلاصات لا يمكن الحصول عليها بالضغط أو التهديد.
إلا أن الاختبار الاضافي هو الذي ينتظر وصول وزير الخارجية الفرنسية الى بيروت نهاية الشهر الجاري، وهو الذي يأمل أن يوسع دائرة الاتصالات ويزيد نقاط جدول الأعمال ويحصل على درجة أعلى من الانتباه، برغم أنه سيجد نفسه في سباق فعلي مع المبادرة التي يقودها الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، الذي يحظى بدعم خاص من السعودية ومصر.