رشا حطيط ـــ غسان سعود
وصل مؤشر حوادث الانتحار المُعلنة في لبنان منذ بداية العام الجاري إلى 95 حالة، بمعدل محاولتيْ انتحار أسبوعياً... تضم لائحة محاولي الانتحار مجموعة من نساء ورجال ينتمون إلى طوائف وأعمار وطبقات اجتماعية مختلفة، علماً أن تفشّي هذه الظاهرة يترافق مع تعتيم إعلامي يمنع إيجاد حلول جديّة لها

فضّل الرجال وضع مسدس في أفواههم وإطلاق النار، فيما اختارت معظم النساء ابتلاع مواد سامة، هكذا يمكن تصنيف محاولات الانتحار التي جرت هذا العام ــــــ والتي أُبلغ عنها ـــــ حسب ما تظهره إحصائيات قوى الأمن.
القراءة الأولى لمحاولات الانتحار هذا العام لا تسمح بطرح فرضيات عامة، فمن المعروف أن وسائل الانتحار متعددة، قد يلجأ البعض الى الوسائل التقليدية منها، كالشنق أو الاحتراق أو القفز عن الشرفات، فيما يبحث البعض الآخر عن ابتكارات جديدة.
سجّل الأسبوع الأخير من شهر حزيران الفائت 9 حوادث انتحار، بحسب قوى الأمن الداخلي. يوم الأحد 24\6\2007 حاول شربل (25 عاماً) الانتحار بإطلاق عيار ناري في رأسه، وحالته ما زالت خطرة. والثلاثاء 26\6\2007، عُثر على علي (28 عاماً) جثةً داخل محلّه المعدّ لبيع الأجهزة الخلوية وتبيّن أنه أطلق عدة طلقات نارية في رأسه. في اليوم نفسه لجأ قزحيا (84 عاماً) إلى سلاح الصيد ليضع حدّاً لحياته، فأصاب صدره وفارق الحياة. ويوم الأربعاء 27\6\2007 وصل محمد الى المستشفى مصاباً بطلق ناري في رأسه من مسدس حربي أثناء وجوده في محلة حي السلم، وفي نتيجة التحقيق التي تولّته القوى الأمنية، تبين أن محمد أقدم على إطلاق النار على نفسه بقصد الانتحار وقد توفي داخل المستشفى. وفي مدينة طرابلس، توفيت ياس امسواسو (25 عاماً)، أثيوبية الجنسية، إثر سقوطها من منزل مخدوميها، وتبين للقوى الأمنية أنها انتحرت. وفي هذا اليوم أُدخلت روعة (17 عاماً) الى المستشفى إثر تناولها كمية من مهدئ للأعصاب، ووضعها الصحي شبه مستقر، فمحاولتها باءت بالفشل وستضطر إلى العودة إلى منزل ذويها على رغم أنها تعاني مشاكل عائلية. رولا (23 عاماً) أُدخلت الى مستشفى في اليوم التالي. ويوم الجمعة انتحرت في فرن الشباك فتاة اسمها أنيان
(24 عاماً).
تتعدد أساليب الانتحار، وثمة العديد من المحاولات التي تبوء، لحسن الحظ، بالفشل. وروت رجاء (22 عاماً) التي حاولت أن تضع حداً لحياتها على رغم عمرها الصغير وفشلت في الانتحار، لـ«الأخبار» أنها تعرضت وهي في السابعة من العمر لاعتداء جنسي من أحد أقربائها. تكرر هذا الاعتداء وبعد مدة تحوّل المعتدي الى الصديق والملجأ الوحيد. عندما كبرت رجاء أرادت أن تُبعد قريبها هذا عنها، ولكنها مع نهاية العام الفائت، بدأت تشعر بحالة من الكآبة تصفها كالآتي: «تراودني أصوات غريبة أسمعها كلما أكون وحيدة. أصوات سرعان ما تتحول إلى صداع لا ينفع معه دواء. أشعر برغبة في الصراخ أو الركض والهروب إلى مكان جديد. ثمة ضجيج وصخب في رأسي. أحاول أن أفكر في أشياء متنوعة، لكن غالباً ما يكون الصداع أقوى من كل الأمور الأخرى. أشعر بفراغ كبير، وأنه لا قيمة لحياتي، وأن مشاعري تجاه الآخرين كاذبة. أشعر أني إنسان بلا شعور»، تتابع والدموع تنهمر من عينيها: «النهار أسهل بكثير من الليل. لم أُعلم أحداً بالأمر سوى خطيبي الذي حاول عبثاً إقناعي بزيارة الطبيب النفسي، لكني لم أستطع أن أثق بأحد، فقد خفت. يئس خطيبي من المحاولة ربما لعدم قدرته على مواجهة هذا الأمر والتأقلم لاحقاً مع فكرة أن زوجته انتحرت، هذا على الأقل هو السبب الذي تحدث عنه عندما قرر فسخ الخطوبة، وقد حاولت أن أبتلع كمية كبيرة من الحبوب المسكّنة لوضع حد لحياتي». تفاجئ رجاء محدّثها وهي تُعرب عن ارتياحها لفسخ الخطوبة، وتقول إنها كانت خائفة من الارتباط، وحتى الآن تجد صعوبة في أن تثق بأحد.

تعدد الأسباب والوسائل

هل يمكن الجزم بأن ما تعرضت له رجاء وهي صغيرة هو العامل الوحيد الذي دفعها لاحقاً إلى الانتحار؟ وهل يمكن التأكيد أن أي شخص يتعرض لاعتداء في الصغر يحاول الانتحار في الكبر؟ وباختصار ما هو الانتحار؟
يقول الباحث الاجتماعي أحمد عياش: «الانتحار قرار ذاتي بتدمير الذات، بإنهاء الأنا»، وذلك في كتابه «الانتحار، نماذج حيّة لمسائل لم تُحسم بعد». ويلفت إلى أن «هذه القضية لا تزال مهملة في لبنان، ومتروكة في عتمة سرية»، وهو قسم «الانتحار» إلى ثلاثة أشكال: الأول هو الانتحار الناجح ويكون ‏فيه الموت محققاً عبر سلوك محكم التنفيذ، والثاني هو الانتحار الفاشل حيث تكون الرغبة في الموت حقيقية إلا أن السلوك الانتحاري غير محكم التنفيذ، والشكل الثالث هو «الرديف الانتحاري»، أي حين يعلن المرء نيّته ‏الموت الإرادي إلا أنه غير قادر على تنفيذ السلوك الانتحاري، أو حين يخفي ‏نيته الموت، على رغم أنه يسلك سلوكاً انتحارياً يؤدي به الى الهلاك.‏ في هذا السياق قد يكون أي فرد فكّر ولو مرة واحدة في الموت من دون أن يعمل مباشرة على وضع حدّ لحياته، ولكن، من جهة أخرى، قد يلجأ البعض الى تصرّف «رديف»، وذلك من خلال تناول مواد مدمرة (كحول، مخدرات) أو الامتناع عن متابعة علاج أو التعرض لحادث سير «مفاجئ» بسبب القيادة المتهوّرة.
أسباب الانتحار متنوّعة، لكن عياش يقسمها إلى مجموعتين، تضم الأولى «الأسباب المباشرة والحوادث الخارجية والمعلنة»، أي اضطرابات العلاقات العاطفيـــــــــــة، والحوادث العائلية ـــــ الاجتماعية، والحوادث السياسية والعقائدية، والحوادث الاقتصادية، والحالات المرضية، والاعتداءات الجنسية، والابتزاز، وحالات الانتقـــــــام، والفشل الدراسي أو المهني، والهرب من حكم العدالة، وحالات الصدفة واللعب كالطفل أحمد ع. البالغ من العمر 10 سنين، الذي وُجد مشنوقاً في منزل ذويه في بلدة الخيام (قضاء مرجعيون)، وجاء في التحقـــــــــيق القضائي أن أحمد شنق نفسه متعمّداً بعدما اعتاد فعل ذلك بين الحين والآخر على سبيل اللهو والتمثيل.
أما المجموعة الثانية كما وضعها عياش فإنها تتضمن الأسباب المستترة والذاتية للانتحار، أي الاكتئاب والوسواس الهوسي والأمراض الذهنية الحادّة وانفصام الشخصية واضطراب الشخصية الحاد والأزمات الوجودية وأزمة الهوية إلخ...
من جهة أخرى، يلخّص المتخصص في علم النفس الاجتماعي عون الله عازار الانتحار بوصفه ناتجاً عن أسباب نفسية واجتماعية، وعن سيطرة غريزة الموت على غريزة الحياة. وأكد عازار أن المؤشرات تدل على سهولة تنفيذ الانتحار مع ازدياد المصاعب الحياتية وانخفاض المناعة النفسية، ويُقصد بـ«المناعة النفسية» قدرة الإنسان على مواجهة المصاعب. وفي الوقت الذي يكون فيه الجسد رهينة تصرف صاحب العقل والقرار، يبقى الشعور بالأمان عنصراً أساسياً في أداء الدور الأهم بالنسبة إلى الحصانة أو المناعة النفسية عند الفرد. لهذا السبب قد يواجه شخصان مشاكل مشابهة تصيب أحدهم بإحباط يدفعه إلى محاولة الانتحار، فيما لا يتأثر الشخص الثاني بها. ويأتي الدعم الاجتماعي، وخصوصاً العائلي، عاملاً أساسياً لتعزيز المناعة النفسية.

الانتحار عار!

ترفض العائلات اللبنانية تصديق خبر انتحار أحد أفرادها، تكذّبه، تبحث عن سبب «مقنع» للوفاة ثم تتبنّاه. يتكرر المشهد نفسه في كل المناطق اللبنانية من دون استثناء. لا يكاد أحد يعترف بأن قريبه قد انتحر أو حاول الانتحار. تتكرر الدهشة من السؤال، والإنكار يصل الى حد اتهام «مسوّقي هذه «الشائعات» بالحسد من المتوفي».
تشكل العقائد الدينية والتقاليد العائلية والاجتماعية حاجزاً يصطدم به الاستقصاء، ويتحوّل الباحث عن تفاصيل إضافية حول الوفاة إلى «مسيء» لشرف العائلة، فيسمعهم يردّدون: «قلنا ألف مرة إن ابننا اختنق أثناء الاستحمام لأنه نسي قارورة الغاز مفتوحة، إذا تلفظت مرة أخرى بكلمة انتحار، فسأقفل الخط وأعرف كيف أربّيك»، هذا ما قاله أيضاً أقارب شاب انتحر في بيت الشعار المتنية، وهو في الثالثة والعشرين، كان يتابع دراسة الحقوق في الجامعة اللبنانية، وكان متفوّقاً يحسده معظم زملائه، إضافة إلى تمتّعه بلياقة بدنية جعلته الأفضل بين لاعبي كرة السلة في منطقته.
وفي 14 كانون الثاني الماضي وُجد شاب لم يتعدَّ أيضاً الثالثة والعشرين جثةً على الأرض في منزله في بدارو ـــــ بيروت. أهالي الحي وناطور البناية ينكرون أنه انتحر، ويرفض ذووه استقبال الصحافيين، ويسارعون إلى إقفال الباب رافضين التعليق. لكنهم، وبعد ساعات، يشفقون على زائرهم، فيفتحون الباب قليلاً، وتطل سيدة خمسينية وتقول: «كان يعاني اضطرابات نفسية. معظمهم ينهون حياتهم بهذه الطريقة». وقبل أن تصف «الطريقة» يعود الباب ليُغلق تاركاً صدى صوت الوالد وهو يوجّه شتائم تنتهي بتهديد الصحافي بـ«رؤية أمور لا تعجبك إذا لم تغادر فوراً».
يخترق البعض حاجز الصمت، فيعترفون بأن لهم أقارب لجأوا إلى «الانتحار»، لكنهم يرفضون تقديم أية معلومات أو تفاصيل عن الأسباب. في هذا السياق، تتذكر أم فقدت ابنها قبل أربعة أعوام بعدما تناول مواد سامة، كيف قررت العائلة تبنّي رواية وفاة أخرى، فتقول إن خيار ابنها كان مقنعاً بنظره وكان يقوم بما يؤمن به كما عوّدها دائماً. ولكنها تلفت إلى أن زوجها ما زال يعاني حتى اليوم اضطرابات، فيما يزور أحد أولادهما الطبيب النفسي بعدما ادعى أنه شاهد شقيقه يناديه في الحلم.
في إطار دراساته حول الانتحار تناول عياش إحصائيات مصدرها قوى الأمن الداخلي، تبدأ من سنة 1974 وصولاً إلى سنة 2001 التي سجلت حدوث 112 حالة انتحار. لكن الباحث يلفت الى أن هذه الأرقام لا تعكس ما يجري على أرض الواقع، وقد اعتمد عياش على بحث إحصائي خاص عن أعداد المنتحرين في ثلاثة مستشفيات كبرى تحدثت عن حدوث 50 محاولة انتحار في السنة. قد يأتي رفض المجتمع لظاهرة الانتحار جزئياً نتيجةً للموقف الديني. ويوضح الأب الأورثوذكسي جوزف الخوري أن الكنيسة ترفض الصلاة على جثمان المنتحر وأن الإيمان رادع مهم لهذا النوع من «الجرائم». وفي الدين الإسلامي جاء في الآية 29 من سورة النساء في القرآن الكريم «لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً». ويقول الشيخ يوسف الغوش إن «الله عز وجل يقول إن من يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على اللَّه يسيراً». ويرى أن العقاب الإلهي (نُصْلِيهِ نَاراً) يرعب كل من يفكر في قتل نفسه، الأمر الذي انعكس انخفاضاً كبيراً في نسبة الانتحار في البلدان العربية مقارنة مع البلدان الأخرى، علماً أن الباحث أحمد عياش يعيد انخفاض النسبة إلى لجوء البعض بسبب الروادع الاجتماعية والدينية الى الانتحار الرديف الذي لا يسجل في الإحصاءات انتحاراً.
من جهة ثانية، يلفت الباحث القانوني نزار صاغية في كتاب بعنوان «الانتحار: التوجهات القانونية في المجتمعات الحديثة»، إلى أن الأسئلة الرئيسية في هذه القضية يُفترض أن تتركز على «قدرة المجتمع على فرز قوانين تتعلق بالانتحار أولاً، وثانياً بالحياة، علماً بأن القوانين تلازم الفرد، ومدى تدخّله في هذا الشأن، كأن يُحظر أن يشارك سلباً أو إيجابياً في الانتحار». ويأتي هذا التساؤل، بحسب صاغية، في خضم توجّه المجتمعات نحو مزيد من الفردية التي تكرس قيمتين أساسيتين «قيمة الحياة البشرية وقيمة الحرية الشخصية». ويشير صاغية إلى أن الانتحار أو «قتل الذات» لا يشكّل جرماً جزائياً. والقانون اللبناني توقف عن معاقبة من يُقدم على الانتحار، بعدما ثبت أن العقوبة تطال الورثة عبر مصادرة أملاكهم، إضافة إلى عدم القدرة على اعتبار الفرد جانياً ‏ومجنياً عليه في آن واحد، لكن هذا الأمر يطرح الإشكالية التالية: إذا كان القانون يعفي من يقوم بالمحاولة من أية عقوبة، فذلك قد يعني أن الفعل المعفى من العقوبة هو عامة فعل مشروع، وإذا كان الإعفاء لا يعود الى مشروعيته، بل إلى حجة عجز الميت عن الدفاع عن نفسه، فهذه حجة لا تنطبق على المحاولة الفاشلة. ويعاقب القانون كل من يشارك أو يحرّض على الانتحار بموجب المادة 553 من قانون العقوبات. وتتفاوت مدة الاعتقال من ثلاثة أشهر الى عشر سنين وفقاً للحالة.




نداء استغاثة... إلكترونية! وحسب مصدر في وزارة الشؤون، هناك أفكار في هذا الخصوص لكن الأمر يحتاج الى موازنات مالية غير متوافرة، لذا الأمر يقتصر الجهد الذي تبذله الوزارة على التنسيق مع بعض الجمعيات المتعاقدة معها والتي تُعنى بالتوعية النفسية بشكل عام ولا يوجد أي برنامج متخصص يتعلق بمحاولي الانتحار. وإذا أراد الفرد المصاب بكآبة، أن يبحث عن مغيث، فلن يجد بسهولة من يسمعه لأنه، بخلاف الدول «المتحضرة»، لم يُخصص خط ساخن لسماع استغاثته. وإذا أراد البحث عما يعزز مناعته النفسية، عبر الإنترنت، فالحري به أن يكون ضليعاً باللغة الإنكليزية أو الفرنسية ليتمكّن من الاستفادة من مواقع الإغاثة الفورية، لأننا إذا وضعنا كلمة «انتحار» (باللغة العربية) في خانة البحث الإلكتروني فلن تقع إلّا على مواقع نكات وطرف أو انتقادات لأشخاص انتحروا.