نهر البارد ـ نزيه الصديق البدّاوي ـ عبد الكافي الصمد

عـــودة النـــازحين دونهـــا «صعوبات قانونية» وهواجس لا تجد من يبدّدهـا

خرق القصف المدفعي العنيف والاشتباكات التي وقعت بعد ظهر أمس في مخيم نهر البارد الهدوء الحذر الذي لفّه في فترة قبل الظهر، وذلك بعدما ارتفعت حدة القصف بعد العصر، إثر استخدام الجيش المدفعية البعيدة في قصفه مواقع مسلحي تنظيم فتح الإسلام، ودكها بالقذائف الصاروخية على نحو متواصل ومركز.
وكان الهدوء الحذر قد سيطر على محاور المواجهات في عمق مخيم نهر البارد القديم، قطعته بين الحين والآخر رشقات المدافع الرشاشة، ولا سيما عند محور مركز الشفاء، والمحيط الجنوبي لمجمع ناجي العلي الطبي ومبنى التعاونية، حيث لا يزال يتمركز القسم الأكبر من مقاتلي «فتح الإسلام».
وشهدت محاور الجهة الجنوبية الغربية من المخيم قبل الظهر مناوشات بالأسلحة الرشاشة الخفيفة والمتوسطة، بعدما كانت وحدات الجيش قد تمكنت من إحراز تقدم في اتجاه المدخل الرئيسي للشارع العام، متجاوزين مبنى الصاعقة في اتجاه الشمال، والسيطرة على محيط المدافن القديمة عند المدخل الجنوبي للمخيم قرب الواجهة البحرية الغربية.
وأظهرت وقائع الأيام الأخيرة، أن الجيش بات يحكم السيطرة بالنار على القسم الأكبر من الجيوب التي ما زال المسلحون يتحصنون فيها في محيط مركز الشفاء عند الجهة الشرقية الشمالية للمخيم، والمواقع العسكرية التي كانت تابعة للفصائل الفلسطينية عند الواجهة البحرية الجنوبية، وأخلتها قبيل الانسحاب الأخير، ولا سيما مواقع الجبهتين الشعبية والديموقراطية والقيادة العامة، وهي مواقع محصَّنة ومجهزة، وفيها مخابئ تحت الأرض أعدت لمواجهة غارات الطائرات الحربية، ومنها يقوم المسلحون على الأرجح بإطلاق الصواريخ في اتجاه المناطق السكنية اللبنانية المحيطة بالمخيم، حيث سقط أمس أربعة صواريخ فوق بلدة دير عمار اقتصرت أضرارها على الماديات، في يوم شهد أقل عدداً من الصواريخ التي انطلقت من داخل المخيم.
وسمع ليل أول من أمس وصباح أمس أصوات مكبرات الصوت للجيش التي نصبت فوق أسطح البنايات، تدعو فيها المسلحين إلى الإفراج عن المدنيين الذين لا يزالون داخل المخيم، ومنهم عائلات المسلحين، محملة إياهم مسؤوليتهم وتنصحهم بالاستسلام للجيش.
واوضح عضو رابطة علماء فلسطين الشيخ محمد الحاج لـ«الأخبار» أنه أجرى اتصالاً بالمسؤول الإعلامي في حركة فتح الإسلام أبو سليم طه، من أجل «المساعدة في إجلاء عائلات المسلحين من النساء والأطفال الذين لا يزالون داخل المخيم، إلا أن طه أبلغني أن النساء رفضن الخروج، وفضلن البقاء مع أزواجهن».
وفّر التقدم المتتابع للجيش في الأيام الأخيرة، ونجاحه في اختراق مواقع المسلحين والسيطرة على عدد من المباني في الأحياء، وتحديداً عند تخوم المخيم القديم وعمقه، ولا سيما في أحياء المغاربة وسعسع الفوقاني وبعض الأزقة في سعسع التحتاني وأطراف المدخل الجنوبي للشارع الرئيسي وتلة كستينة، الإشراف المباشر على القسم الأكبر من أحياء المخيم الداخلية.
وفي موازة ذلك، استقدم الجيش تعزيزات إضافية إلى محاور المواجهات في الاستعداد على ما يبدو لإنهاء المرحلة الأخيرة من أزمة نهر البارد التي مضى عليها 63 يوماً. ويركز الجيش بشكل أساسي على الجهة الجنوبية ـــــ الغربية للمخيّم على أمل السيطرة على الواجهة البحرية بأكملها، ووضع اليد على تحصينات المسلحين للحد من عمليات إطلاق الصواريخ وإنهائها بشكل شبه تام.
من جهة أخرى، سمح الجيش اللبناني لصيادي الأسماك في بلدة العبدة بجمع شباكهم التي كانت لا تزال في المياه منذ بدء أزمة مخيم نهر البارد، وبعد أن كانت هذه الشباك قد أتلفت بشكل تام.
وفي مخيم البداوي، يتلازم الأمل مع القلق لدى النازحين، وتعكس الكلمات والتعابير والتصرفات وطرق العيش والعلاقات الخاصة والعامة، وحتى الصلوات والدعوات، جانبي الأمل والقلق عندهم، لجهة إمكان العودة إلى بيوتهم ومحالهم ومدارسهم في المخيّم، أو عدمها.
«انخلع قلبي من صدري عندما خرجت من المخيّم»، تقول أمّ باسم بلغة مؤثّرة للغاية، في الوقت الذي تداعب فيه صغيرها في باحة مدرسة الناصرة في مخيّم البدّاوي، حيث تقيم وعائلتها منذ نزوحها من مخيّم نهر البارد قبل نحو شهرين.
أمّ باسم التي خرجت وزوجها وأولادهما الخمسة من منزلهم في المخيّم بعد ثلاثة أيّام من اندلاع الاشتباكات بين الجيش اللبناني ومسلحي تنظيم «فتح الإسلام»، وليس عليهم سوى ثيابهم ومبلغ قليل من المال، تعرب عن أمل واحد يحدوها «هو العودة السريعة إلى بيتنا»، فـ«العيشة هنا ليست عيشة، وما من مكان يؤوينا ويسترنا سوى بيتنا».
وما تقوله أمّ باسم ليس سوى نموذج صغير لما يدور على ألسنة وفي أذهان النّازحين كلهم بلا استثناء. فالحاج أبو خليل مصطفى يرى في خروج النازحين من مخيّم نهر البارد «نكبة جديدة للفلسطينيين»، ويقول بغصّة الرجل الذي اقترب من حدود السبعين من عمره، بعدما حاول جاهداً أن يخفي مشاعره: «ما حصل والله ظلم كبير، نحن لا نستأهل أن نقع ضحية مجموعة لا علاقة لنا بها، شو ذنبنا حتى ندفع فاتورة جريمة لم نرتكبها؟».
وفي مقابل اعتبار الحاج أبو خليل أنّ «المسؤولين الفلسطينيين قبل غيرهم، يتحملون مسؤولية السماح لهذه المجموعة بالتغلغل في المخيّم، وترسيخ أقدامها فيه»، فقد أعرب مصدر في أحد الفصائل الفلسطينية في مخيّم البدّاوي لـ«الأخبار» عن أمل كلّ النازحين في «العودة سريعاً إلى مخيّم نهر البارد»، لافتاً إلى أنّ «الغالبية لن تتوانى عن العودة إليه، والإقامة فيه ولو على الركام والأنقاض، حفاظاً على جغرافية المخيم وديموغرافيته وديمومته».
وأوضح المصدر جملة «مخاوف تنتاب الفلسطينيين النازحين من احتمال عرقلة العودة إلى المخيّم، خصوصاً وأنّ أكثر من نصف مساحة المخيّم الحالي قد بنيت خارج رقعة الأرض التي استأجرتها الأونروا عام 1949 لبناء منازل للاجئين فوقها، ولأنّ قسماً كبيراً من الفلسطينيين عمد بعد التكاثر السكاني فيه إلى التمدد خارج هذه الرقعة، وشراء أراض مجاورة لها، بلا حصولهم على أوراق قانونية وثبوتية، وبنوا عليها منازل ومحال تجارية ومؤسسات، وخصوصاً في ما بات يعرف لاحقاً بالمخيّم الجديد، الذي تحوّل مع مرور الوقت إلى متنفّس اقتصادي هام لأهالي المخيّم والجوار»، مضيفاً: «لقد باتت العودة إلى هذه الأماكن اليوم دونها الكثير من العراقيل، وخصوصاً من الناحية القانونية».
ويوضح المصدر أنّ «الحديث عن إعطاء تعويضات لمن تملّك أرضاً أو منزلاً ومحلاً بلا أيّ سند قانوني، سيدخل الجميع في متاهات من غير المعروف كيف سيتم الخروج منها، هذا إذا أقرّ مبدأ دفع تعويضات أصلاً».
وأشار المصدر نفسه إلى أنّ «اقتراح بناء مجمّعات سكنية محدّدة في المخيّم أمر غير مقبول، وخصوصاً بعدما ترامى إلينا أنّ هذه المجمّعات قد لا تستوعب أكثر من نصف عدد سكّان المخيّم على أبعد تقدير»، معلناً في المقابل «رفض غالبية النازحين اقتراح إقامة منازل مؤقتة لهم في محيط مخيّم البدّاوي إلى حين العودة»، ومتسائلاً: «لماذا لا تُبنى هذه البيوت في مخيّم نهر البارد ومحيطه؟».