نقولا ناصيف
تعبّر الزيارة الثالثة للموفد الفرنسي الخاص السفير السابق جان كلود كوسران، بعد اثنتين الشهر الفائت وهذا الشهر، عن شعور فرنسي بتقدّم في معالجة المشكلة اللبنانية وبناء علاقات (متفاوتة التأثير والأهمية) مع الأفرقاء اللبنانيين جميعاً، بمن فيهم الذين يجمعهم بباريس حذر وتحفّظ. وتلاقي وجهة النظر هذه ما يقول به حزب الله عن تطوّر علاقته بالديبلوماسية الفرنسية في الأسابيع الأخيرة، من غير أن يغالي، أو على الأقل يضع الإدارة الفرنسية الجديدة خارج سياق تحالف علني وصريح مع قوى 14 آذار محلياً، وواشنطن إقليمياً ودولياً، ولا أن يتوقع حلاًّ سياسياً قريباً يتدارك الاستحقاقات الداهمة وخطر الفوضى المحتملة. بل لا يتجاهل أن الصورة قد تكون قاتمة.
ولوجهة النظر هذه أكثر من مبرّر في رأي حزب الله:
أول المبرّرات، أنه استطاع أن ينسج علاقات مباشرة مع الخارجية الفرنسية دون المرور حكماً بالسفير في بيروت برنار إيمييه. وهو ما مثّلته الزيارة الثانية لكوسران إلى بيروت عندما التقى موفداً من الحزب هو مسؤول العلاقات الدولية السيد نواف الموسوي، وعندما تلقّى الأخير والوزير المستقيل محمد فنيش مكالمتين هاتفيتين من الموفد الفرنسي الخاص مساء الثلاثاء 10 تموز لتطويق ردود الفعل السلبية على موقف كان قد أعلنه قبل ساعات الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أمام وفد جاليات يهودية، إذ وصف حزب الله بأنه «تنظيم إرهابي». ثم جاء الحوار بين وزير الخارجية برنار كوشنير وكوسران على هامش مؤتمر لا سيل سان كلو للحوار اللبناني مع فنيش والموسوي، في 14 تموز و15 منه، ليبرز حاجة الطرفين إلى مباشرة حوار جدّي بينهما.
ثانيها، أن حزب الله لا يكتم انطباعات سلبية عن السفير الفرنسي الحالي، واعتقاده بأنه لا يكتفي بالاضطلاع بدور الطرف المنحاز إلى قوى 14 آذار وهو يمارس مهمته الدبلوماسية، بل يرى أن إيمييه لا يعكس للخارجية الفرنسية بدقة مضمون مواقف الحزب. ومع أن الأخير لا يقطع علاقته بممثل الدبلوماسية الفرنسية في بيروت، فإنه لا يراهن على دوره، وينتظر الحزب مغادرته بيروت نهائياً من أجل التعويل على علاقة جديدة مع خلَفه في المرحلة المقبلة، في جزء من انفتاح دبلوماسي فرنسي عليه لم يَخبره في الأعوام المنصرمة.
وتبدو المفارقة في أن إيمييه سينتقل إلى السفارة الفرنسية في أنقرة، وهو المنصب الذي سيوافيه إليه أيضاً في ما بعد نظيره الأميركي جيفري فيلتمان الذي سيصبح سفير بلاده لدى العاصمة التركية. غير أن معلومات دبلوماسية ذكرت أن فيلتمان ـــــ وخلافاً لإيمييه ـــــ سيبقى في بيروت حتى ما بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود في النصف الثاني من تشرين الثاني المقبل، رغم انتهاء مدة انتدابه، على أن يلتحق بمقر عمله الجديد مطلع سنة 2008.
ثالثها، أن الحزب إذ يلاحظ أن كوشنير وكوسران أكثر تفهّماً للوضع اللبناني المعقّد والنظرة إلى موقعه كحزب مهم في المعادلة الداخلية اللبنانية وإلى الطائفة الشيعية ودورها خصوصاً، لا يجتهد في أوهام قدرة باريس على ابتكار حل للوضع اللبناني تقف دونه واشنطن. واستناداً إلى وجهة النظر هذه، فإن حزب الله ـــــ ويلاقيه في ذلك الرئيس ميشال عون الذي يجاريه في الحذر ـــــ يتفادى إشاعة انطباعات وتوقعات إيجابية عن مسار الحوار اللبناني، في لا سيل سان كلو في كما في لبنان في مرحلة لاحقة، ما دام لا سبيل للوصول إليه خارج تأييد أميركي جدّي. ووفق هذا الواقع يبني الحزب أداءه في التعامل مع الفريق اللبناني الآخر كما مع المبادرتين الفرنسية والعربية: يشجّع على الحوار ولا ينكفئ عنه، لكنه لا ينتظر منه الكثير الجدّي. ويخشى في المقابل، في ضوء تواتر المعلومات، من تصاعد الدور الذي يقوم به المستشار الدبلوماسي لساركوزي السفير السابق لدى واشنطن جان دافيد ليفيت المرشح لتجاوز دور كوشنير، فضلاً عن وصف الرجل، في أوساط دبلوماسية رفيعة، بأنه أشبه بـ«الغواصة» الأميركية في الإدارة الفرنسية، نظراً إلى تبنّيه غير المشروط للسياسة الأميركية.
لكن ذلك لا يبدّد ظنوناً لدى حزب الله، هي أن الوضع الداخلي اللبناني ذاهب إلى مزيد من الصعاب والتصعيد لدى كل من قوى 14 آذار والمعارضة، وخصوصاً على أبواب الاستحقاق الرئاسي الخريف المقبل، الذي يقف بدوره على حافة هاوية.
بل يذهب هذا الموقف، في مقاربة انتخابات الرئاسة اللبنانية، إلى أن قوى 14 آذار لم تطوِ تماماً صفحة خوض الاستحقاق الرئاسي بنصاب النصف زائداً واحداً انطلاقاً من معادلة أن الخيار هو بين انتخاب رئيس جديد للجمهورية أو الفراغ. ويبدو، بحسب معلومات متداولة في أوساط سياسية واسعة الاطلاع، أن قوى 14 آذار ربما تجاوزت احتمال فقدانها الأكثرية المطلقة في الشهرين المقبلين للتمكّن من انتخاب الرئيس الجديد تبعاً لهذا النصاب. ويميل بعض أوساطها إلى تعويم المعادلة نفسها في المفاضلة بين انتخاب رئيس جديد أو الفراغ، والمجازفة بعقد جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية ولكن «بمن حضر» من النواب المنضوين في صفوفها نظراً إلى أهمية انعكاس المواجهة بينها وبين المعارضة على الاستحقاق.
رابع المبرّرات، أن حزب الله لم يحمّل مؤتمر لا سيل سان كلو للحوار اللبناني أكثر مما حمل، وقد رأى سقف المؤتمر مجرّد انعقاده، وإن من دون التوصّل إلى بيان ختامي أو إعلان نيات ومبادئ. إذ لا يمثّل إخفاق الشخصيات اللبنانية في التوصّل إلى حل سياسي لبناني مستقل إلا أحد مظاهر الاشتباك الإقليمي والنزاع المفتوح بين واشنطن وطهران، وواشنطن ودمشق. وتبعاً لهذا الاشتباك تحاول باريس تكييف مبادرتها حيال لبنان بغية تجنيبه فوضى يحذّر منها الأفرقاء اللبنانيون أنفسهم الذين سيفتعلونها... الأمر الذي يحمل حزب الله على التعامل مع المبادرة الفرنسية على أساس أنها محاولة للحل، لا خطة حل وشيك سهل التنفيذ.
خامسها، أن رئيس المجلس نبيه بري الذي يمضي إجازة عائلية طويلة في اليونان، لن يعود إلى بيروت قبل أسبوع على الأقل. الأمر الذي يعبّر عن عدم تعويل ـــــ إن لم يكن عدم اكتراث ـــــ بالنتائج المرجوة من المبادرة الفرنسية، والتي قد لا تتعدّى تحريك حرارة الاتصال بين الأفرقاء المحليين، بدون التوصّل إلى تسوية فعلية، وخصوصاً أن بري كان قد أعلن غداة مؤتمر لا سيل سان كلو أنه سيلاقي نتائجه الإيجابية بتحرّك داخلي لتعزيز الحوار وتنشيطه.