div style="padding:6px;border-style:outset">
دراسة
يرسم عرض إخفاقات الجيش في حرب لبنان، إلى جانب التهديدات الاستراتيجية التي تواجه إسرائيل، صورة تشاؤمية، حيث سيكون لخيار التماثلية النووية مع إيران تداعيات قاسية حتى على ساحة المعركة التقليدية، ليصبح بالتالي اسم اللعبة الآن «البقاء» أو «الصمود»
الحصار المستحكم وموعد الدجاجة مع الطبّاخفي اللحظة التي نعود فيها إلى دراسة الخيار التقليدي، تطفو عدة نقاط جيو استراتيجية أساسية كانت حتى سنوات خلت بديهية. بل إن مبادئ الحرب في الجيش الإسرائيلي (التي شهدت تحوّلاً جوهرياً في الأعوام الأخيرة) ارتكزت عليها.
إسرائيل هي دولة من دون احتياط جغرافي استراتيجي. حجمها وشكلها يعدان كابوساً استراتيجياً: هي صغيرة وضيقة وطويلة، بحيث إن النسبة بين طول حدودها ومساحتها سيئة جداً. كما أنه يوجد فيها مراكز سكانية ومراكز قوة واضحة، ونقاط ضعفها معروفة. وهي تجاور دولاً معادية علانية (سوريا ولبنان)، وموجودة في صراع متواصل مع الفلسطينيين الذين يسيطرون على أجزاء واسعة شرقها وفي قطاع غزة. كما أنها تحاذي دولة حيادية وضعيفة لا تستطيع أن تعارض بالقوة استخدام أراضيها محوراً لتحرك العدو (الأردن)، وتحاذي أيضاً مصر التي يمكن أن تكون صديقة أو معادية وفقاً للحاجة، وهي تثبت في الأعوام الأخيرة عدوانيتها على الأغلب (وأمام خسارة إسرائيلية محتملة لن تبقى بالتأكيد لامبالية). إضافة إلى كل ذلك، يوجد في إسرائيل شريحة سكانية كبيرة تتردد بين ولائها للدولة أو للفلسطينيين أو الدول العربية الأخرى. وكما قال أحد الباحثين المعروفين، إنّ ولاء عرب إسرائيل للدولة يتناسب مباشرة مع المسافة التي تفصل بين الدبابات السورية والحدود. ومن الطبيعي أن يكون الأمر كذلك.
ومن هنا تنشأ سيناريوات حربية متعددة، تدمج بين تعدّد الجبهات الذي يفوق قدرة عمل الجيش الحالية ومحاور تحرك عديدة لقوات العدو ـــــ بعضها خفيّ وبعضها مفاجئ ـــــ واستخدام قوات شعبية متوافرة ومسلحة (الفلسطينيون وجزء من عرب إسرائيل) لإحباط عمليات الجيش الإسرائيلي، التوغل إلى داخل الحدود الإسرائيلية، عمليات استهداف نقاط استراتيجية، الحصول على معلومات استخبارية تكتيكية، إلخ. إن احتمالات نشاط العدو كثيرة، وقدراته تزداد عاماً بعد عام.
في الواقع، إن الاستعداد وفقاً لهذه الخطوط تجري الآن عملياً على عدة مستويات. على سبيل المثال، قبل عدة أشهر وقَّعت كل من إيران وسوريا على اتفاقية دفاع مشترك، وتعمل إيران اليوم بتصميم، وبمساعدة مداخيلها النفطية الهائلة، على تسليح سوريا بسلاح روسي. عدد غير قليل من مواطني إسرائيل من أصل عربي، وبعضهم جنود نظاميون في الجيش، قُبض عليهم في الأعوام الأخيرة وهم يتجسّسون لمصلحة حزب الله. تأهيل حزب الله والفلسطينيين وتزويدهم بالسلاح من إيران وسوريا معروفان لدى الجميع، وهما في ازدياد. بالمناسبة، لا يوجد تفسير ناجح للاستثمار الكبير الذي يقوم به حزب الله في جنوب لبنان بهدف تحويله إلى ساحة محصنة، إلا الاستعداد لحرب تقليدية شاملة مع إسرائيل.
الروس أيضا يُشخِّصون مصالحهم المحلية والعالمية، واتخذوا خطوة حاسمة: كانوا أول من اعترف بحماس، وأرسلوا قوة عسكرية مستقلّة (مسلمة) إلى جنوب لبنان، ولديهم مشاريع عسكرية كثيرة في سوريا، ويقومون ببيع إيران السلاح بهدف منع شن هجوم أميركي. الفلسطينيّون يستنسخون نموذج حزب الله في قطاع غزة، وتهريب السلاح إلى الضفة والقطاع يجري بأحجام كبيرة، وحماس تسيطر على الشعب الفلسطيني. الصورة واضحة جداً.
التنازل عن المبادرة الحربيةبلغة بسيطة، إسرائيل موجودة في وضع تزداد فيه المعضلة حولها استحكاماً. الانسحاب من لبنان أعطى الإشارة، مغادرة قطاع غزة عززت هذه الإشارة، وسباق التسلح والاستعداد للحرب القادمة هو في الذروة. ماذا تفعل إسرائيل في غضون ذلك؟ كيف تستعد للتهديد الواضح المعاني لكل من يتكلف عناء دراسة الوضع، ليس انطلاقاً من تمنيات، بل من رؤية ثاقبة وتقدير استراتيجي؟
قادة إسرائيل، العسكر والساسة، توصّلوا في هذا الوقت إلى استنتاج أن الجيش كبير جداً، وقلصوا بشكل فظ من قوته النظامية ومن تدريبات الاحتياط. قررا أن الحرب التقليدية لا تلوح في الأفق، وبالتالي أوقفت إسرائيل التدرّب استعداداً لها، حتى على المستوى غير العسكري. سياستها الأمنية واستراتيجيتها العسكرية انقلبت رأساً على عقب. أحياناً تكون المفارقة التاريخية لاذعة جداً: لجنة مريدور، التي أُنشئت من أجل دراسة السياسة الأمنية، قررت أن التكنولوجيا والقوة النارية هما اللتان ستحسمان الحرب القادمة، فيما أهمية المناورة أصبحت منخفضة. بعد أشهر قليلة من تقديم تقريرها، الذي استغرق إعداده سنوات، لم تتمكن عدة فرق من الجيش، بما فيها ألوية مدرعات، وبمشاركة سلاح الجو والاستخبارات والبحرية وكل الوحدات الخاصة، مع التكنولوجيا والقوة النارية، من الانتصار على لواءين مهترئين من سلاح المشاة الخفيف تابعين لحزب الله.
من دون الاستغراق في التفاصيل، يمكن القول إنّ السياسة الأمنية لإسرائيل اليوم تشبه سياسة الحماية والإحباط، خلافاً للنظرية الكلاسيكية للجيش التي تقوم على المبادرة الهجومية الاستباقية، (بما فيها البرية)، واستخدام المناورات، ونقل القتال إلى أرض العدو وتهديد حدوده. إسرائيل الحالية تماثل ملاكماً يصل إلى الحلبة وهو يعتقد أنه يكفيه الدفاع وإحباط ضربات الخصم فقط.
صحيح أن التاريخ العسكري يثبت أن المنظومات الدفاعية، وخاصة في وضع جيواستراتيجي كوضع إسرائيل، تميل إلى الانهيار. بيد أنه في دولة إسرائيل يمكن شخصاً حصّل تأهيله العسكري بالكامل في سلاح الجو ويعتقد أن هذا السلاح يكفي للانتصار في الحرب أن يُعين رئيساً للأركان، ويمكن شخصاً آخر، أن يعتقد أن هدف الجيش الرئيسي زرع «الرعب» في العدو من خلال تفكيك قواته على الأغلب، أن يكون قائداً لفرقة عسكرية، وكذلك يمكن لمحامٍ سياسي أن يكون رئيساً للجنة الأمنية الاستراتيجة العليا في دولة إسرائيل.
ما علاقة هؤلاء الأشخاص بالتاريخ العسكري والاستراتيجي؟ أجوبتهم على اعتراضات من النوع المذكور هي من طراز «لا ينوي العدو مهاجمتنا لأن الجميع يعلم أن الجيش الإسرائيلي هو الأقوى في المنطقة، لذلك لا يجب نشر الهلع والخوف عبر سيناريوات افتراضية». إن جواباً من هذا النوع يدل على عدم إدراك جوهري للتقدير الاستراتيجي الحالي. ففي أساس التقدير الاستراتيجي ثمة مبدأ بسيط: يجب التعامل مع قدرات العدو. فنياته وأفكاره قد تتغير، وبما أنه يفكر، وهو يفكر، في الطرق الممكنة لتدميرنا، فإنه قد يتوصل إلى أفكار جديدة جراء الدروس التي يستخلصها. لذلك، فإنّ الأساس هو القدرة. وهي قائمة. إضافة إلى ذلك، فإن نتائج اختبار النيات واضحة أيضاً. ثمة سبب لسباق التسلح الحالي على كل الجبهات في محيط إسرائيل. الأمر ليس صدفة، وهو ليس حدثاً موضعياً لا يندرج في صورة واضحة يمكن رؤية إيران في خلفيتها غير مرة، وهي العدو القياسي الأكثر نوعية الذي ينبغي لإسرائيل مواجهته أكثر من أي مرة في السابق.
إيران لا تتقدم في إنتاج سلاح نووي عبثاً. وهي لم تُقم خطأً جيشاً في جنوب لبنان وقلاعاً عسكرية ضخمة تحت الأرض. وهي لا تفعل ذلك في غزّة صدفة. ولا تموّل صفقات ترميم الجيش السوري من دون سبب، وتظلّل سوريا بمظلة عسكرية... إنّ من يتجاهل ذلك يفضل الوهم والتفاؤل الخاطئ على التقدير الواعي للواقع.
يمكن قول الكثير، لكن تم الاقتصار على عدد من الإخفاقات. لم يتم التطرق للشرح التاريخي لاختيار إسرائيل لمسار الإضعاف الذاتي، ولم يتم تفصيل السيناريوات العسكرية، ولم يوصف عموم الجهد الإيراني، ولم تُدرس المضاعفات الكارثية للانتفاضات على المجتمع والجيش الإسرائيليين، ولم يتم التطرق إلى أزمة السلك القيادي داخل الجيش، ولا الوقوف على الحلول المحتملة.
برغم كل ذلك، فإن الفكرة الأساس هي أنّ وجهتنا نحو حرب تقليدية متعددة الجبهات والأبعاد واضحة جداً.
ضغط الوقت كبير، والأخطاء كثيرة. إنها لحظة أزمة وطنية أمنية. لا يجب أن نخطئ: إن صمودنا في الماضي قبالة أزمات أمنية أخرى لا يضمن صمودنا المستقبلي، وهو في كل الأحوال حصيلة تضحيات كبيرة وجهود جبارة. إن تفاؤلاً كهذا يُذكر بـ«استقراء الدجاجة»، والذي يقول إن كل يوم يمر يجعلها تعتقد أنه بما أنها لم تُذبح، وبما أن عدد الأيام التي تعيشها زاد واحداً، فإن فرص ذبحها في اليوم التالي أقل. إلا أن الروزنامة على الحائط تظهر للمعني أن كل يوم يمر يُقَرّب موعد لقائها
بالطباخ.