البقاع ــ فيصل طعمة
وقفت أمام منزلها، وعيناها على الطريق، ودويّ الموت يدبّ من بعيد. كانت أسماء سيف الدين اللويس (7 أعوام) تنتظر وصول والدها بشغف لتريه ثوبها الأبيض الجديد الذي ابتاعته لها أمها، وتريد منه وعداً بشراء حذاء أبيض يتناسب معه.
إنه ليل الأحد 16 تموز. يصل والدها منهكاً من عمله، يأخذها في حضنه ويجلسان.
يحبس الوالد دمعته عندما يتذكرها اليوم، يقول مع تنهيدة حزن: «كانت تحب كثيراً أكل المعلبات، فمررت بالدكان وابتعت لها بعض الأصناف التي تحب، لا أنسى تلك الابتسامة التي رمقتني بها وفرحتها وهي تخبرني أن والدتها اشترت لها ثوباً أبيض وطلبت مني بغنج ناعم حذاء أبيض، وخصوصاً أن اليوم التالي (الاثنين) هو يوم سوق في بلدة المرج. وعدتها بذلك وهي بين يديّ أتحسس حرارة جسدها الرقيق، ونبضات قلبها المتوترة، التي تتصارع مع الخوف المنبعث من آلة القتل الإسرائيلية، وكانت كلما سمعت دوي انفجار يشتدّ عناقها لي».
يتابع: «لقد استهدفت هذه المنطقة في حرب 1982، وهذا ما جعلنا نعتقد أننا في مأمن من تكرار التجربة. جلسنا من دون كهرباء، وعند الساعة العاشرة تماماً، إذا بدويّ انفجار يخطف الأنفاس يشاركنا جلستنا ويخطف ابنتي من بين يديّ ويقذفني بعيداً عنها بضعة أمتار».
يروح يتذكرها: «كم كانت رقيقة وحنونة وتحبّ المساعدة، أذكر أنه قبل الحادثة بنحو عشرة أيام وقعتُ على كفيّ، فتورمتا، وحين شاهدتهما، سألتني إن كنت متألماً، وتمنت لو آخذ يديها بدل يديّ كي لا أشعر بالألم. إنها لمأساة حقيقية، وأنا حتى الآن أفتقدها كثيراً، وأحياناً أسمع حسّها».
وعندما لم يعد الوالد سيف الدين قادراً على المتابعة، تتدخل الوالدة جورية عبدو أصلاني: «كانت أسماء مجتهدة كثيراً في المدرسة، وكل أساتذتها معجبون بذكائها»، بغصة تتابع: «أصيبت بالحصبة، وقبل الحادثة بيومين تحسنت حالتها، وفي ذلك النهار المشؤوم استيقظت باكراً وعملت على تسريح شعرها جيداً وكأنه يوم عرسها... نعم كان يوم عرسها، فهي الآن طائر من طيور الجنة، وقد منّ عليها الله نعمة الشهادة».
عند وقوع الحادثة، أصيب كل أفراد الأسرة بجروح متفاوتة الخطورة في الرأس والبطن، والأطراف، أما «أسماء» التي كانت تظن أنها محمية بين ذراعي والدها، وبعيدة عن أي خطر، فقد قذفها الانفجار أمتاراً. هرعت الأم الجريحة لمساعدة أفراد أسرتها المنكوبة، وأخذت تجرّ زوجها تارة، وابنتها تارة أخرى، مسافة لا تقل عن مئتي متر من دون أن تبالي بجروحها، وتضعهما في مكان آمن، يقيهما القصف وشظاياه. وحين حضنت «أسماء»، شعرت بأن صدر ابنتها دكّ بشظية تفوقها حجماً ووزناً، لكنها كانت ترفض فكرة أن تكون ابنتها قد استشهدت وفارقت الحياة، ويضيع الأمل بكل بساطة، أمل يجعلها تفاخر بابنتها الطبيبة أو المهندسة في المستقبل، كما كانت هي وابنتها تخططان. تقول الوالدة حين سمعت على التلفاز أن فرق الإنقاذ وجدت طفلة حية في الجنوب: «طلبت من زوجي الكشف على ابنتي، علّها لا تزال حية، فأنا لا أصدق حتى الآن أنني فقدتها». تجهش بالبكاء وتدخل منزلها برهة، ثم تعود وفي يديها صور ابنتها التي ملأت جدران المنزل وزواياه، فهرع أولادها الثلاثة وأخذ كل واحد منهم صورة لـ«أسماء» وبدوره أخذ الوالد واحدة، وأنا كذلك، لأرى ملاكاً يشع من عينيه حب الحياة، ولمعان الأمل والطموح الذي لم يتحقق.
تقول الوالدة: «إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله. الذي راح لا يعوض ولو بمال الدنيا كلها». يأخذ الوالد أولاده الثلاثة بين ذراعيه، ويقول: «كلنا نفتقدها، ولن ننساها أو ننسى ضحكتها التي كانت دائماً ترتسم على وجهها، والأمل يبقى بالأحياء، وهؤلاء هم الأمل. وليت زعماء البلد كافة يتحسسون أوجاعنا ويتفقون في ما بينهم لأننا لم نعد نحتمل».