نقولا ناصيف
تبدو معركة الانتخاب الفرعي في المتن، الأحد المقبل، حتميّة. حتى ما قبل السبت الماضي كان طرفا النزاع، الرئيسان أمين الجميل وميشال عون، يصفانها بأنها سياسية. لكنها أضحت الآن شخصية، مذ أدخلا التشهير المتبادل والتعريض بالسمعة السياسية وفتح دفاتر الماضي ونبش القبور في عدّة شغل المعركة الانتخابية. ولم يعد في وسع أيّ منهما التراجع عن العتبة الحرجة التي بلغها في المواجهة، ما لم يأتهما الحل من خارجهما:
ـــــ إمّا من بكركي من خلال موقف يرسم سقف معركة انتخابات المتن، ويؤدي في أحسن الأحوال إلى إلغائها على نحو موقف البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، في 16 تموز، من النصاب الدستوري لجلسة انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، بقوله بالثلثين نصاب انعقاد. وهو موقف شاءه صفير سياسياً لإنقاذ الاستحقاق الرئاسي لكونه استحقاقاً مسيحياً. ومن غير أن يتهمه أحد بالاجتهاد الدستوري والقانوني في بتّ مسألة نصاب الانعقاد، لزم الجميع سقف بكركي وسلّموا بنصاب الثلثين لانتخاب الرئيس الجديد. الأمر نفسه بالنسبة إلى انتخابات المتن التي تمثّل بدورها استحقاقاً مسيحياً ومارونياً بين قطبين مارونيين، في وسع بكركي ــــ التي هي أكثر عطفاً على الجميل وتفهّماً لترشّحه ــــ وضع سقف سياسي لمسارها بإلزام فريقي النزاع التوافق عليها أو الخروج معاً من انتخابات مدمّرة بسحب الترشيحات وتأجيل الانتخاب الفرعي إلى وقت أكثر ملاءمة. وفي واقع الأمر، فإن موقفاً كهذا لا يلزم الحكومة اتخاذ قرار بالتأجيل، ولا يثنيها عن الإصرار على إجراء انتخاب فرعي كانت قد قرّرت قوى 14 آذار المضي فيه في قريطم، بعد ساعات على اغتيال النائب وليد عيدو في 13 حزيران الفائت.
ـــــ أو من مجلس شورى الدولة بإصدار قرار يبطل الانتخاب الفرعي في المتن دون الدائرة الثانية من بيروت بالاستناد إلى مخالفة مرسوم دعوة الهيئات الانتخابية المادة 41 من الدستور التي ارتكز عليها، والمتعلقة بمدة الـ60 يوماً لإصدار مرسوم الدعوة. وهو حلّ لا يعطي المقعد للجميل لكنه لا يجعله كذلك من حصة عون.
ولا تكمن المشكلة في أن عون يخوض معركة استرداد مقعد لم يكن له في الأساس، بل في أن الجميل يخوض معركة الدفاع عن المقعد الذي شغله نجله النائب والوزير الشهيد بيار الجميل.
لكنّ أياً من هذين الحلين لا يرضي الرئيس السابق للحكومة العسكرية. لا يجد في تحرّك بكركي الجدية اللازمة لإيجاد حل لمشكلة الانتخاب الفرعي، ويلاحظ أنها تبسّطها عندما تسأله عن التعويض الذي يريده لسحب مرشحه من المعركة الانتخابية كي يفوز الرئيس السابق للجمهورية بالمقعد. ولا يجد أيضاً في الحل المتداول ما يجعله يوافق على أي قرار يتخذه مجلس شورى الدولة لإلغاء الانتخاب الفرعي. بل المطلوب بالنسبة إليه كي يسلّم بإلغاء الانتخابات إبطال المرسوم في بيروت والمتن على السواء.
يقول عون: «الحل الوحيد قانوني ويكون من خلال مجلس الشورى، لكن لجهة إبطال المرسوم لعدم دستوريته، ولأن رئيس الجمهورية لم يوقّعه، والإصدار لم يحصل وفق الأصول القانونية. المشكلة في المرسوم لا في الانتخاب الفرعي، وهذا ينطبق على الدائرة الثانية من بيروت والمتن، والإبطال يجب أن يأخذ في الاعتبار وحدة المرسوم لكون دعوة الهيئات الناخبة قد صدرت بمرسوم واحد. لا بد من إلغاء المرسوم لتفادي تسجيل سابقة التعرّض لصلاحيات رئيس الجمهورية وانتهاكها. لست مرجعاً قانونياً، بل نائب، ولي صفتي النيابية التي تجعلني أكون مع تفسير الدستور بما يحتويه، لا بما لا يحتويه». ويرى في مثل هذا الحل مخرجاً من شأنه أن «يوقف محاولات الاغتيال المعنوي التي نتعرّض لها». لا يعلّق أهمية على رفض رئيس المجلس نبيه بري الاعتراف بالنائب الجديد لتياره إذا فاز مرشحه كميل خوري، ويرى الأمر إذذاك ثانوياً. لذا يقول إنه فاجأ خصومه بمناورته، وهي مشاركته في الانتخاب الفرعي في المتن من دون أن تنطوي على أي اعتراف بحكومة الرئيس فؤاد السنيورة: «إذا خسر مرشح التيار الوطني الحرّ يطعن في الانتخاب الفرعي، وإذا نجح فمغزى ذلك أن الشعب وقف إلى جانبي في الهدف من الترشّح وهو رفض التجاوزات والانتهاكات الدستورية والقانونية التي تقوم بها الحكومة، وخصوصاً حيال ما يتصل بصلاحيات رئيس الجمهورية كالمواد 49 و52 و53 وسواها، كذلك عمل الحكومة على إلغاء دور المؤسسات الدستورية من خلال الانتقال بالقوانين إلى مجلس الأمن كالمحكمة الدولية بدل مناقشتها في مجلس النواب. إن نجاح مرشح التيار الوطني لن يعني إلّا إدانة مباشرة لكل ممارسات الحكومة الحالية ومئات القرارات التي اتخذتها».
لكنّ المخرج القانوني، غير المؤكد بعد، لا يقلّل من وقع ما يصفه عون بالمواجهة السياسية في المتن: «لا أرى فرصاً للتوافق لأننا على طرفي نقيض من مشروعين سياسيين متعارضين، يسيران في خطين متوازيين. إذن لن يلتقيا لأنهما يختلفان تماماً في النهج والأداء، إلّا إذا انتقل أحدهما من موقعه إلى الموقع الآخر. إذا أتى الجميل إلى موقعنا نبحث في تفاهم سياسي. لا أخوض انتخاباً فرعياً من أجل مقعد، بل لتفادي تثبيت أعراف في ممارسات دستورية أنكرتها أحكام الدستور».
ويضيف: «المخرج القانوني يكون قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع. أما إذا ذهبنا إليها، فالمشكلة تصير عندئذ من طبيعة أخرى». إلّا أنه لا يربط بين الانتخاب الفرعي والاستحقاق الرئاسي إلّا من زاوية أن الفريق الآخر يريد ـــــ يقول الجنرال ـــــ رئيساً هزيلاً وضعيفاً للجمهورية و«لذلك عليهم أن يدركوا أنني لا أهدّد بشعبيتي ولا بتحالفاتي، بل أستخدم هذه كورقة أخيرة»، لكنّ عون يفصل في الوقت نفسه بين ما يتوقعه من انتخابات المتن وشعبيته التي لا يرجّح تأثرها «لأن معركتنا هي على كل أرض لبنان، وليست معركة على المتن أو في المتن».
واقع الأمر أن الوقت أمام الجميل وعون بات ضيّقاً للعودة بهما إلى تفاهم أصبح بلوغه، هو الآخر، أكثر تعقيداً وقد انساقا إلى حسابات شخصية ظاهراً، وإلى الإعداد لانقلابات في الموقع المسيحي ضمناً. ويذكّر ذلك كله بصراع خفيّ كان قد انفجر تحت القش في أيار 1988، في الشارع قبل المؤسسات، في سباق الأفرقاء المسيحيين الثلاثة الأقوياء في المناطق الشرقية حينذاك على أبواب الاستحقاق الرئاسي. كانوا الأفرقاء أنفسهم: الجميل رئيساً وعون قائداً للجيش وسمير جعجع قائداً للقوات اللبنانية. وكان كل منهم يريد الاستحقاق على طريقته التي تفترض تحالفاً مكتوماً مع الطرف الثاني من أجل الانقلاب على الطرف الثالث لإخراجه من المعادلة. وهكذا بعد خروج الجميل من قصر بعبدا، في أيلول 1988، أصبح الطرفان الآخران وجهاً لوجه.
الأفرقاء الثلاثة أنفسهم اليوم. لكن مَن يخرج من أول أشواط السباق؟