عرفات حجازي
سقطت الآمال التي علّقها كثيرون على زيارة رئيس الدبلوماسية الفرنسية إلى لبنان، وفشل في إكمال الحوار الذي أعاد فتح بابه في سان كلو ودفعه إلى مستوى الصف الأول، وبدا أن الإيجابيات والأجواء المشجعة التي ظهرت في باريس تبددت، وطغت على سطح المشهد السياسي عودة السجالات الساخنة والحادة بين «حزب الله» والحكومة على خلفية الموقف من حرب تموز والحملة المتجددة بين عون والحكومة التي ازدادت اشتعالاً بين قوى المعارضة والموالاة مع بدء التحضيرات لمعركة الانتخاب الفرعي في المتن الشمالي، ما حقن الوضع بالمزيد من عوامل التشنج والتوتير السياسي العام.
في ظل الأجواء المأزومة وانقطاع المسار الحواري، كان متوقعاً ألا تصل محادثات كوشنير إلى نتائج محددة، وأن يتعذر عليه الحصول على أجوبة واضحة ونهائية على أفكار طرحها للخروج من الحلقة المفرغة التي تدور فيها الأزمة منذ تسعة أشهر. فقد اصطدم في مساعيه بالحواجز نفسها التي اصطدمت بها المبادرة العربية، أي بالأولويتين المتعارضتين والمتصلتين بعقدتي الحكومة والرئاسة، ولم ينجح في حواراته مع الأقطاب في إيجاد آلية مقبولة للتوافق على التزامن بين الأمرين، فظلّ فريق الموالاة مصراً على أن الوقائع السياسية لم تعد تسهل العمل على توسيع الحكومة خلال الشهرين الفاصلين عن موعد الدورة الانتخابية الرئاسية، وبالتالي فتوسع الحكومة وعدم ربطها بإنجاز الاستحقاق الرئاسي سيشجع على تعطيل التوافق على الرئاسة، من هنا مطالبة هذا الفريق بضمانات وتعهدات بعدم استقالة وزراء المعارضة وعدم مقاطعة نوابها لجلسات انتخاب الرئيس، وهو الأمر الذي رفضته المعارضة ورأت الربط بين الأمرين كميناً سياسياً، مصرة على فصلهما والمبادرة إلى تأليف حكومة وحدة وطنية تكون المدخل المسهِّل لمناقشة كل القضايا الخلافية وحلها، وبينها موضوع رئاسة الجمهورية. وقد حاول كوشنير أن يوازي بين مطالب الفريقين مقترحاً سلة واحدة متكاملة تبدأ بحكومة وحدة وطنية يليها إنجاز الاستحقاق الرئاسي، مع إعطاء ضمانات متبادلة مستقلة لكل استحقاق على حدة. لكن هذا الطرح يحتاج إلى نقاش معّمق، مع أن الرئيس نبيه بري أبلغ وزير الخارجية الفرنسي استعداد المعارضة للبحث في توسيع الحكومة أو قيام حكومة جديدة يكون من عناوين بيانها الوزاري تنفيذ مقررات مؤتمر الحوار وتنفيذ القرار 1701 ومؤتمر باريس 3، وهذا يشكل برنامج عمل للمرحلة المقبلة، مع التركيز بصورة أساسية على الإعداد لجلسة البرلمان في 25 أيلول لانتخاب الرئيس والاتفاق عليه. وهذه المرونة التي أبداها الرئيس بري مع سلة الحل التي طرحها كوشنير أرفقها بدافع الحرص على إنجاح التحرك الفرنسي برزمة من الافكار الخلاقة لمناقشتها مع الطرف الآخر، وشوهد بالفعل الطاقم المساعد لوزير الخارجية الفرنسي يعرض هذه الأفكار على بعض الشخصيات الموالية التي التقت في قصر الصنوبر على العشاء مساء السبت وعلى مائدة الغداء ظهر أمس. وبانتظار انتهاء معركة المتن التي أثرت سلباً على زيارة كوشنير، وهو اعترف أمام بعض من التقاهم بأن توقيت الزيارة لم يكن موفقاً ستتجدد الاتصالات بين كوشنير والرئيس بري لدرس الوسائل الكفيلة باستعادة الحوار على مستوى القيادات وتجاوز الأجندات الخاصة بكل فريق والمعطلة لكل تسوية وتفاهم ليصب حوارهم في إنهاء الأزمة وإزالة أسباب الانقسام.
ولأن كوشنير على اقتناع بأن أي تقدم على خط التحرك الذي يقوده قد يسجل خارج بيروت، قصد القاهرة حيث سيلتقي اليوم وزراء خارجية المملكة العربية السعودية ومصر والأمين العام للجامعة العربية لوضعهم في خلاصة المحادثات والمداولات التي أجراها مع الأطراف اللبنانية والبحث في إمكان تنسيق الجهود العربية ــ الفرنسية في شأن الأزمة اللبنانية، وربما في دمج المسعيين العربي والفرنسي وتفعيلهما والاتفاق على خريطة عمل تعيد إحياء قنوات التواصل بين قادة الصف الأول التي أوقفتها حرب تموز العام الماضي، لأن الكل يسلم بأن الحل هو في يد اللبنانيين، وإذا لم ينجحوا في تلمس الحلول لمشكلاتهم من خلال الحوار، فإنهم ذاهبون بالتأكيد نحو الفوضى والاقتتال.
وإذا كان كوشنير قد أخفق في تسجيل خروق مهمة في جدار الأزمة، رافضاً إعلان النجاح والفشل في مهمته، فإنه في المقابل لمس من خلال لقاءاته مع أقطاب المعارضة والموالاة رغبة في إيجاد الحلول المتوازنة وتشديدهم على الدور المحوري للرئيس بري لما له من باع طويل في إدارة الحوارات وطرح الأفكار الخلاقة للتوفيق بين السقوف السياسية لأطراف الأزمة. وقد جاءت مواقفه الحاسمة أخيراً لجهة التمسك بالطائف ورفضه لطروحات المثالثة ضمن المناصفة مؤشراً جيداً يؤسس لأجواء تفاؤلية، وخصوصاً أنه سبق وحذر الجميع من تجاوز الدستور والذهاب إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية خارج نصاب الثلثين وقيام حكومتين يرمي البلد في المجهول، وهو بدأ منذ الآن يمشي على رؤوس أصابعه ويحضر لحركة اتصالات سيبدأ بها خلال الأسبوعين المقبلين مع القيادات السياسية والحزبية والروحية لاستمزاج رأيها حول الاستحقاق الرئاسي الذي حدد موعده في الخامس والعشرين من أيلول، رافضاً الاستسلام لنظرية الفراغ ومصراً على الاعتقاد بأن وطنية القيادات ترفض تكرار التجربة الفلسطينية والعراقية وأن الجميع محكومون بالتفتيش عن وسيلة لتسهيل التوافق. وليس ما كشفه النائب بطرس حرب، أحد أركان الموالاة، عن تواصل بين نواب من فريقي 14 آذار و 8 آذار لتشكيل عملية ضغط على الفريقين لتقريب وجهات النظر ودعوته بري للقيام بدور قيادة مسيرة التقريب بين الأفرقاء وإيجاد المخرج وهم سيقفون إلى جانبه سوى بداية طيبة لفتح الأفق أمام الحل المنشود.