نقولا ناصيف
موقف التعاطف والتفهّم والتأييد الذي اتخذته بكركي من ترشيح الرئيس أمين الجميل للانتخاب الفرعي في المتن يوم الأحد، ليس الأول. حذت حذوه عام 2002 بُعيد وفاة النائب ألبر مخيبر وأيّدت ترك المقعد التاريخي في بيت مخيبر، فتختار العائلة مَن يحلّ فيه قبل أن تسمّي هذه ابن شقيقه النائب الحالي غسان مخيبر. أيّد النائب ميشال المر إرادة بكركي، قبل أن تنقلب اللعبة رأساً على عقب عندما أيّد فريق من قرنة شهوان ترشيح غبريال المر وردّ عليه ميشال المر بترشيح ابنته ميرنا، فانفجر الصراع في العائلة والشارع المتني. وتبعاً لطبيعة الانقسام السياسي بين حلفاء سوريا ومعارضيها وقفت بكركي إلى جانب غبريال المر الذي فاز بالمقعد قبل أن يطعن بانتخابه شقيقه وينتهي الأمر لدى المجلس الدستوري بإعادة المقعد إلى بيت ألبر مخيبر. تحرّك «الجيش الأسود» في المتن تأييداً لغبريال. كان قد تحرّك بفاعلية عندما حضّت بكركي على مقاطعة انتخابات 1992، وعندما رفضت قانون انتخابات 1996، وكانت ضمناً تؤيد استمرار المقاطعة، إلى أن شجّعت على المشاركة في انتخابات 2000. هو جيش الرهبان والآباء والأديرة والكنائس، كان في قلب «حرب السنتين» لتشجيع المسيحيين على الصمود والمقاومة. وها هو على وشك العودة إلى الدور ذاته في الانتخاب الفرعي الأحد المقبل إلى جانب الجميل، آخذاً بموقف البطريرك مار نصر الله بطرس صفير الأحد المنصرم، عندما تحدّث عن المحافظة على التقاليد اللبنانية والبيوت السياسية وتجنّب الانقسام والمعركة الانتخابية.
على أن ذلك كله ينتظر ما قد يصدر اليوم عن الاجتماع الشهري لمجلس الأساقفة الموارنة برئاسة البطريرك، وسعي بكركي إلى تسوية لتجنيب المتن معركة سياسية وشخصية، لم تكن حتى ساعة متقدمة من ليل أمس قد تأكدت حظوظها. على الأقل لم يقبل الجميّل بأفكار نقلت إليه، ولم يرَ أنها تبقي المقعد لبيته، ولا تأخذ في الاعتبار مغزى شهادة نجله النائب والوزير الشهيد بيار الجميل. الأمر الذي يفتح الأبواب على عودة «الجيش الأسود» إلى دعم الرئيس الأعلى لحزب الكتائب الذي لم يقم بينه وبين عون ما كان ـ على الأقل ـ بين عون وقائد القوات اللبنانية سمير جعجع في السياسة والشارع، ووقع للعماد مرسومي تعيينه قائداً للجيش عام 1984 ورئيساً لحكومة عسكرية انتقالية عام 1988.
وحتى الساعات الأخيرة كان الجميل والرئيس ميشال عون يصران على خوض الانتخاب الفرعي، وكل منهما يجزم بأنه سيكون المنتصر. وإذ يقود الجميل معركة ترشيحه، فإن منافسه المرشح كميل خوري لا يزال سياسياً مجهولاً في أوساط الرأي العام المتني، بلا صورة ولا جولات ولا خطب، ويقود عون معركته بما يعبّر عن وجهة الصراع على المقعد النيابي والزعامة المسيحية والخيارات السياسية وتحالفاتها.
في جوّ هذا الصراع جلست بكركي في الوسط ساعية إلى تسوية. الأحد استعادت موقفها التقليدي ممّا يسميه الجميل «اعتبارات إنسانية تتخطى الأسباب السياسية». وجد الجميل أن موقف البطريرك «يعبّر عن مشاعر الناس، وبكركي تنطق بمشاعر الناس. ليست مع فريق سياسي ضد آخر، بل تعبّر عما يعتمل في قلوب المواطنين وأخصهم المسيحيين، وتتجاوب ومشاعرهم ونزعاتهم. وهذا ما أراد البطريرك قوله حيال دعم ترشيحي لمقعد المتن».
يقول الجميل أيضاً إن المعركة فرضت عليه، وهو لا يريدها: «لا أحد يريد هذه المعركة. هناك بعض أركان العماد عون يأتون إلى بكفيا ويبلغون إليّ أنهم لا يريدون هذه المعركة ويطلبون مساعدتي كي يخرج الجميع منها. النائب ميشال المر يقول إنه لا يريدها، كذلك الأرمن وحزب الطاشناق. الرأي العام المتني قرفان منها ولا يريدها. مَن يريد هذه المعركة إذاً؟ لا أعرف. دخل الخلاف إلى البيوت والعائلات. وهذا أخطر ما قد يتعرّض له المتنيون. بالتأكيد ما يحصل أو سيحصل، وخصوصاً بعد انتخابات الأحد، سيترك جرحاً كبيراً، وأخشى أن يكون ختمه أصعب من قدراتنا. بعض ما قيل فيه إهانة من الصعب تجاوزها. نعم نحن ذاهبون إلى معركة. لا بل نحن في قلب المعركة. أفاجأ الآن بتعاطف كبير من أناس كانوا أخصامنا السياسيين وأصبحوا في صفنا. أنا مطمئن إلى فوزي في الانتخاب الفرعي مع أن ليس لأحد أن ينام على حرير ما لديه. في حصيلة الأصداء التي لمستها في الأيام الأخيرة هناك تغيير جذري في المتن وتبدّل لافت في القرى والبلدات ولدى المتنيين الذين صاروا أقرب إليّ. وهو تعاطف لم ألمسه قبلاً». ويعزو تبدّل الاتجاهات في الرأي العام المتني إلى أسباب منها «شهادة بيار التي أثارت سخط اللبنانيين، والموقف السياسي، والانطباع بوجود اعتداء على آل الجميل الذين يعنون الكثير للبنانيين، وموقف الكنيسة، والتقاليد اللبنانية التي لا تتعارض مع الممارسة الديموقراطية، وخيبة الأمل السياسية من العماد عون وتياره بعدما انتخبه الناس على أساس خط سياسي التزمه سرعان ما خرج عليه وانتهج آخر مختلفاً».
يضيف الجميّل: «لا أعرف مَن يريد معركة المتن. هي معركة انتخابية لا تقدّم ولا تؤخر في توازنات مجلس النواب. لا هي معركة مشروع قوى 14 آذار ولا معركة مشروع قوى 8 آذار. بل أراها معركة محض متنية، لا تحتاج إلى كل ما يحصل من حولها الآن. أنا أخشى أن تكون المعركة مفروضة علينا جميعاً كي تكون ضمن سلسلة نقل الاضطرابات من منطقة إلى أخرى مثل التفجيرات والاغتيالات. هناك دم شهيد على الأرض، وأخشى وجود طابور خامس يصطاد في المياه العكرة».
ويؤكد الجميل تجنّبه «كل ما من شأنه تصعيد الموقف في المتن، بتفادي المواكب والإطلالة الجماهيرية والتعبئة الشعبية والزمامير للحؤول دون أي مشكلة أمنيّة. العماد عون هو مَن افتعل السجال ونقل المعركة من طابعها الانتخابي إلى الشخصي. بدأ الحملة بأن توجّه إليّ مباشرة وسمّاني واتهمني بتغطية تهميش المسيحيين. لماذا أنا بالذات؟ لا أعرف».