strong>عمر نشّابة
يبدو أن نظام العدالة في لبنان هذه الأيام يسير بشكل معاكس لنظام العدالة في الدول المتحضّرة، ففي الأنظمة التي تحترم مقتضيات العدالة يبقى التحقيق الجنائي سرّياً حتى انعقاد المحكمة التي تُعَدُّ المرجع الوحيد الصالح للإدانة. لكن في بلدنا يُعلن عن انتهاء التحقيقات في جريمة طالت المواطنين 4 أشهر بعد إعلان الحكومة عن القَتَلة وارتباطاتهم

وقعت جريمة عين علق المزدوجة في 13 شباط 2007 وسقط 3 شهداء و23 جريحاً من صفوف المواطنين. بعد وقوع الجريمة بشهر (13 آذار) أعلن وزير الداخلية للمواطنين من مقرّ مجلس الوزراء عن القَتَلَة وارتباطهم بدولة مجاورة. وسرد الوزير خلال حديثه لوسائل الإعلام بعد جلسة لمجلس الوزراء حضرها مدعي عام التمييز والمدير العام لقوى الأمن ورئيس فرع المعلومات فيه، تفاصيل عن التحقيقات الجنائية التي يفترض أن تكون سرّية، وخصوصاً بعدما ذكر وزير الداخلية أن أحد المطلوبين ما زال فارّاً من وجه العدالة، (إذ قال الوزير: «أما من فجَّر الباص الثاني في عين علق فما زال فاراً»). وبالتالي مكّن وزير الداخلية الرجل الفارّ من أخذ علم بتفاصيل التحقيقات عبر وسائل الإعلام، ما قد سهّل استمراره بالفرار من وجه العدالة.
وبعد أكثر من أربعة أشهر على كلام وزير الداخلية، صدر أمس عن المكتب الإعلامي لوزارة العدل بيان جاء فيه: «عََقدَ وزير العدل الدكتور شارل رزق اجتماعاً صباح اليوم (أمس) مع المدعي العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا، تناول البحث خلاله عمل النيابات في مختلف المحافظات، بالإضافة إلى عمل النيابة العامة العسكرية. أثناء هذا الاجتماع أطْلَعَ مدعي عام التمييز وزير العدل على أن قاضي التحقيق العدلي في قضية التفجير في عين علق رشيد مزهر قد أنهى تحقيقاته المتضمنة اعترافات صريحة من الموقوفين، ولا سيما أحدهم «مصطفى إبراهيم سيّو» واضع المتفجّرة في أحد الباصيْن بتاريخ 13/2/2007، بانتمائهم إلى فتح الإسلام القسم الخارجي الـذي يترأّسه «أبو يزنْ» ويتبع تسلسلياً إلى «أبو مِدْيَنْ» وصولاً إلى «شاكر العبسي» الـذي يضع المخططات الإرهابية وينفّذها، وانطلاقهم من مخيّم نهر البارد مع المتفجّرات والصواعق وقيـامهم باستئجـار الشقق فـي عين عار ـــــ قرنة شهوان ـــــ الدورة ـــــ الأشرفية وتحضيرهم العبوتيْن ومراقبتهم لخط سير الباصات وتوقيت انطلاقها. وتم رفع الملف إلى النيابة العامة التمييزية لإبداء مطالعتها بالأساس تمهيداً لقيام المحقّق العدلي بوضع القرار الاتّهامي وإحالة الملف إلى جانب المجلس العدلي للبدء بإجراءات المحاكمة العلنية».
بيان يخالف قواعد العدالة
قبل العودة إلى كلام وزير الداخلية في آذار الماضي ومقارنته مع ما ورد في بيان وزارة العدل، لا بدّ من التوقف عند مضمون البيان نفسه. فالبيان الصادر عن المكتب الإعلامي في وزارة العدل الذي يُعَدُّ جهة إدارية تابعة للسلطة الإجرائية، يتضمّن معلومات تفصيلية عن إفادات مشتبه بهم قبل صدور القرار الاتهامي بحقّهم، وهذا أمر مخالف للقواعد بحسب المعايير الدقيقة التي تتبعها الدول المتحضّرة لتأمين العدل والإنصاف. فيفترض أن تبقى إفادات وأسماء المشتبه بهم سرّية أو على الأقل أن لا تعلن عن تفاصيلها جهة رسمية، حتى يصدر الاتهام القضائي استناداً إلى مواد من نصّ القانون.
أما بما يخصّ المصطلحات المستخدمة في صياغة نصّ البيان فهي تخالف أيضاً قواعد العدالة في الأنظمة المتحضّرة، إذ ينصّ البيان على أن «مصطفى إبراهيم سيّو» اعترف بأنه «واضع المتفجّرة في أحد الباصيْن». كما ذكر البيان، نقلاً عن سيّو، أن عناصر «فتح الإسلام» قاموا بـ«تحضير العبوتين». ما هو سبب كشف البيان عن إفادة سيّو أمام المحققين، وهي إفادة قد تكون كاذبة، وخصوصاً لأنها صادرة عن مشتبه به بالضلوع في الجريمة؟ هل يرى المكتب الإعلامي في وزارة العدل أن «اعتراف» سيّو يعبّر عن «الحقيقة»؟
إن تضمين البيان معلومات نسبت إلى مشتبه به فيه افتراض صحّة هذه المعلومات، وفي ذلك استباق للقرار الاتهامي وللمحكمة التي تعطي سيّو حقّ الدفاع وحقّ محاولة إقناع وإثبات لهيئة المحكمة أن ما ورد في تحقيقات الشرطة كذب وافتراء. لكن المكتب الإعلامي في وزارة العدل أعطى نفسه صلاحية تجاوز هذا الحقّ عبر كشف «الحقيقة» قبل انعقاد المحكمة، لا بل قبل توجيه قرار اتهامي. إضافة إلى ذلك، ذكر البيان نقلاً عن سيّو أن «شاكر العبسي يضع المخططات الإرهابية وينفّذها»، ولم تُحَدَّد تلك المخطّطات، وقد يفهم من ذلك التعميم ربط بين الهجمات الإرهابية التي استهدفت لبنان في الآونة الاخيرة، وهذا أمر لا إثبات له بحسب التقرير الثامن للجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري والجرائم الأخرى المتلازمة.
اعترافات «صريحة» من الموقوفين
لقد اختار بيان وزارة العدل ذكر اعترافات المشتبه به مصطفى ابراهيم سيّو دون غيره، وركّز عليها من دون أن يذكر الأدلّة الجنائية العلمية المخبرية والبصمات وغيرها من الإثباتات الحسيّة التي يصعب التلاعب والتشكيك في صحّتها. وهذا أمر مستغرب، إذ يفترض أن يعتمد القضاء على الأدلّة العلمية الثابتة أكثر مما يعتمد على إفادات المشتبه بهم أو «الاعترافات» التي تتغيّر في بعض الأحيان بين تلاوتها أمام المحقّق وأمام المحكمة. هذا وتسجّل تقارير منظمات حقوق الإنسان وأحكام صادرة عن القضاء اللبناني نفسه وجود حالات تعذيب جسدي بأساليب متعددة خلال التحقيقات الأولية. وهل يمكن انكار احتمال أن تتغيّر إفادات سيّو لاحقاً وتتناقض كما كان حال إفادات محمد زهير الصديق وهسام هسام وغيرهما؟.
«فتح الإسلام» القسم «الخارجي» أو السوري؟
في 13 آذار الماضي قال وزير الداخلية إن مرتكبي جريمة عين علق «خلال الاعترافات يقولون إنهم من «فتح الإسلام»، وفي النهاية لا فرق بين «فتح الإسلام» وفتح الانتفاضة، وكلنا يعلم الارتباطات الخارجية لفتح الانتفاضة. إن الموقوفين الأربعة هم سوريون كانوا خططوا للعمليات، والأهم أنهم اعترفوا بأن التمويل ذاتي، وفهمنا من ذلك القيام بسرقة المصارف، واعترفوا بسرقة مصرف في طرابلس وآخر في صيدا». وعندما سئل الوزير: «هل صحيح أن المخابرات السورية هي من كان يوجههم؟»، أجاب: «سموا أشخاصاً في «فتح الإسلام»، ولا يخفى على أحد أن «فتح الإسلام» هي «فتح الانتفاضة» وهي جزء من الجهاز الأمني المخابراتي السوري، والتعاون الذي ساد بينهم كان وثيقاً جداً». كما أوضح أن «فتح الإسلام» منقسمة إلى ثلاثة أقسام: قسم داخلي مرتبط بالقضايا اللبنانية، ويشهد تنسيقاً كاملاً مع أجهزة المخابرات السورية. القسم الآخر هو لجلب بعض جنسيات معينة للدخول، فأعطوا لأنفسهم هذه التسمية».
أما بيان المكتب الإعلامي في وزارة العدل فذكر أن الاعتراف «الصريح» لـ«مصطفى إبراهيم سيّو» يفيد بأن منفذي جريمة عين علق ينتمون إلى «فتح الإسلام القسم الخارجي الـذي يترأّسه «أبو يزنْ» ويتبع تسلسلياً إلى «أبو مِدْيَنْ» وصولاً إلى «شاكر العبسي» الـذي يضع المخططات الإرهابية وينفّذها»،
التفاوت بين كلام وزير الداخلية الذي يفيد بأن اعتراف سيّو تضمّن «القسم الداخلي» وبيان وزارة العدل الذي قال إن الاعتراف نفسه تضمّن «القسم الخارجي» يضيّع «الحقيقة» فمن يصدّق المواطنون؟