فداء عيتاني
منظمـــات البـــارد تطالـــب بـ«حقّ العـــودة» ووقـــف القصـــف العشـــوائي

اذا ما صدقت التقارير الإعلامية، فإن الجيش اللبناني قصف أمس بشكل «مركز ودقيق وموضعي» المواقع التي احتلتها قوات النخبة في الجيش اللبناني من مغاوير ومغاوير بحر أول من أمس. وبالتالي فإن الجيش يقوم للمرّة الأولى بتاريخ الجيوش بحسب هذا الإعلام الفضائي بدك مواقعه نفسها بمدافع الميدان.
على من يمر بتخوم مخيم نهر البارد ويتحدث هاتفياً مع الموجودين داخله أن يرسم صورة أخرى مغايرة وأكثر منطقية. فالمكان بالكاد كان يتسع في الماضي لقاطنيه الأربعين ألفاً، إذ يمتدّ على مسافة 1200 متر من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله، وتبلغ أكبر مسافة من البحر إلى الطريق الدولي 900 متر. ورغم ذلك، تستمر الأحاديث عن التقدم مئات الأمتار، وعن قصف بمدفعية 155 ملم مركز وموضعي يطاول مواقع فتح الإسلام دون غيرها، وعن حرص على المدنيين الباقين. وبينما يؤكد رئيس الوزراء فؤاد السنيورة أن ما بقي في المخيم مجرد ألفي فلسطيني، تؤكد الأرقام التي يمكن جمعها أن البارد يضم 40 ألف شخص (مع أولئك الذين لا تشملهم أرقام وكالة غوث وتشغيل اللاجئين ـــــ الأونروا)، وقد خرج منهم ما يقارب 25 إلى 27 ألفاً، اتجه معظمهم إلى مخيم البداوي القريب من مدينة طرابلس الذي لا يكاد يتسع لسكانه (18 ألفاً). وفيما يفيدك من يتمكّن من الردّ على هاتفه في البارد بأن الباقين في المخيم ليسوا أقل من 5 آلاف (فلسطيني ولبناني، فضلاً عن مقاتلي فتح الإسلام الذين ينتشرون على تخوم البارد ويبتعدون عن وسطه بعد القصف العنيف الذي تعرض له)، فإنّ الرقم لا يتّسم بالدقة، وخصوصاً أنّ كل من في البارد بالكاد يتمكن من مد يده إلى خارج باب منزله أو الانتقال إلى منزل آخر أقل تدميراً من مقر إقامته.
ثمة من يسخر في مدينة طرابلس حين تحلق المروحيات اللبنانية متجهة لضرب مقاتلي فتح الإسلام قائلاً إن «شاي مرجعيون مخصص للإسرائيليين، أما الشمال فنصيبه مروحيات الغازيل». أمّا شاهين، المقاتل المقرب من مسؤول فتح الإسلام شاكر العبسي، فيسخر بشكل أكثر واقعية: ليتفضل الجيش اللبناني ويصور جنوده أين أصبحوا ميدانياً، وليسمح للإعلاميين بالتصوير. يقول الرجل عبر الهاتف، ثم يتابع بالسخرية نفسها: «تعال إلينا في المخيم، وأنا قد صورت لك كل بطولات الجيش، وكل آثار الدمار في المخيم، هل تريدها على أسطوانة مدمجة أم على ذاكرة (يو اس بي)؟».
المخيم
السخرية أكثر من سوداء. فهي قائمة على مقتل عشرات الجنود اللبنانيين، وعلى مأساة مشرّدين فلسطينيين، وعلى جثث ضحايا داخل المخيم يقضون دون إمكان طلب مساعدة أو حتى رفع جثثهم، وجرحى يصابون بصمت في منازلهم أو ملاجئهم من دون إمكان معرفة أماكنهم. السخرية في معركة مشابهة تدفع بالقوى الفلسطينية إلى الاجتماع المرتجل داخل المخيم المحاصر والمدمر، والتعلّق بأي صحافي يتمكن من الاتصال لتحميله الأمانة: «أوقفوا النار وأعيدوا أهل المخيم، فبغيرهم يستحيل ضبط حالة فتح الإسلام العبثية والقضاء عليها».
ومن يخرج من اللبنانيين من المخيم يتمكن من إخبارك عن منزله الذي دمر، وعن الحي الذي عصفت به القذائف، ويبدأ بالقول: «داخل المخيم خراب، القصف كان يتركز في محيط حي الصفوري، وحي سعسع، وعموم المخيم (أو ما يعرف إعلامياً بالمخيم القديم).
ويضيف: «من المستحيل تحديد حجم السكان الباقين في المخيم. فالتنقل صعب جداً، إضافة إلى تعدد الملاجئ ونقاط الاحتماء، ولكن لا يزال داخل المخيم الآلاف، وعلى الأقل 5 آلاف، وأوضاعهم مأساوية طبعاً»، يقول وهو لم يغادر بعد المخيم في ذهنه الشارد. ويتابع: «أكثر ما يلفت هو الحالات العصبية لدى السكان، لقد انتشرت الحالات هذه بكثرة». ويشير إلى أن إصابات المدنيين قد لا تكون كبيرة نسبياً، لكن تتحول هذه الإصابات إلى خطرة نظراً لاستحالة التنقل والعلاج. إلا أن العديد من الموجودين داخل المخيم يتقنون أساليب التمريض، ما يحد من حالات الوفاة العرضية.

القوى الفلسطينية

ويتحدث أحد القياديين الفلسطينيين من داخل المخيم عن لقاء مرتجل للقوى، أطلق ما يشبه نداء إلى الجيش اللبناني بوقف النار فوراً، وفق صيغة واضحة. ويقول القيادي إن وقف النار من الجيش سيسمح للفصائل بدفع فتح الإسلام إلى الخروج من المخيم، والسماح بعودة اللاجئين، وتأمين المستلزمات الضرورية لهم، والسماح للناس بالتحرك إلى داخل المخيم لا بإخلائه أمام فتح الإسلام، بل وضع الناس في أماكنهم الطبيعية لمنع سقوط المخيم «في يد هذه الحالة العبثية».
القيادي الفلسطيني يرجو محدثه الإسراع في الكلام، فهو قد خبر عدة مرات تعرض مكان وجوده للقصف خلال حديثه عبر الهاتف الخلوي. ويؤكد أن الجيش اللبناني يقصف النقاط التي يلتقط انطلاق إشارة هاتف خلوي منها.
ويقدم القيادي صورة سريعة للوضع الإنساني في داخل المخيم المحاصر، حيث لا ماء أو كهرباء أو إمدادات صحية أو غذائية، أو أي نوع من أنواع الرعاية للاجئين والقاطنين. ويقول إن «الأوضاع الإنسانية زفت» ثم يتنفس بعمق قبل أن يوضح أن «600 منزل مهدمة بالكامل، 17 جريحاً (في اليوم الأخير) وهناك شهداء وبعضهم أصبح خارج المخيم ونحن نتحدث عن المدنيين فقط». ويتابع قائلاً إن أوضاع الخمسة آلاف الباقين سيئة جداً، ثم لا يتمكن من تأكيد أن ما يقدمه هو أرقام حصرية، فيضيف أن هذا ما تجمع لديه. ويؤكد قياديون فلسطينيون خارج المخيم أن معرفة نتائج القصف على المدنيين رهن بوقف إطلاق النار.

ضرب اليونيفيل

على نقيض إسراع القيادي الفلسطيني داخل المخيم في إنهاء مكالماته الهاتفية، لا يستعجل أحد قياديي حركة فتح الإسلام الحديث، بل يأخذ وقته في الرد والإجابة عن هاتف مراقب من المخابرات اللبنانية. يتحدث شاهين بسخرية وهو يشرب الشاي على أحد محاور المواجهة مع الجيش اللبناني: «الجيش وخلال 3 أيام يقاتل ليتقدم 50 متراً، وللدقة فإنه تقدم 25 متراً، ومشاركة اليونيفيل في المعارك سمحت له بالتقدم لمسافة 25 متراً إضافية». ويعود ليؤكد أن قوات اليونيفيل المقبلة من البحر شاركت بالمعارك عبر المدفعية البحرية وعبر المروحيات وعبر زوارق مطاطية، وخاصة في الجانب البحري من مخيم نهر البارد.
ويسرد شاهين المقرب من شاكر العبسي أن قوات اليونيفيل تشارك بعد الغروب في العمليات العسكرية، مطالباً الجيش اللبناني «وبحال كان يملك أية صدقية بالإعلان عن مشاركة قوات اليونيفيل بالعمليات الحربية». كما يتحدث شاهين عن نوعية حديثة من الذخائر التي يستخدمها الجيش اللبناني وهي قذائف تسقط بالمظلات وتنفجر على مسافة عالية عن الأرض أولاً ثم تعاود الانفجار مع ملامستها الأرض، سائلاً «إن كان الجيش يعرف ما هي نوعية الأسلحة والذخائر التي زوده بها الأميركيون أخيراً».
ويتوعد المقاتل رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة برد الكف الذي حاول توجيهه إلى فتح الإسلام، قائلاً: «نحن لم نأت إلى هنا إلا لحماية المسلمين، أما أن يقدم السنيورة فاتورة إلى الأميركيين فهذا سيجعله يدفع الثمن غالياً». كما يهدد شاهين باسم فتح الإسلام قوات الطوارئ الدولية العاملة في لبنان، بأنها «إذا ما استمرت في العمل ضدنا فسننقل المعركة إلى عمق الجنوب (اللبناني) حيث تنتشر قواتها». وحين تسأل الشاب عن إمكان تهديد قوات دولية، وهو المحاصر في مئات الأمتار دون ماء أو طعام في شمال البلاد، يضحك ويقول: «هل تعتقد أن فتح الإسلام هي عبارة عن 500 مقاتل محاصرين في مخيم نهر البارد؟ في حال تواصُل المعارك، ستعرف خلال الأيام المقبلة من هي فتح الإسلام».