strong> غسّان سعود
لم تتّسع طرابلس قبل بضعة عقود لعشرات العائلات النازحة من قرى عكار والمنية أملاً بقليل من رفاهية المدينة. فالتمّ هؤلاء بعضهم على بعض في مساحة صغيرة تمتد بين نهر أبو علي شمالاً والزاهرية جنوباً، سرعان ما أطلق أهل المدينة عليها اسم «حي الغرباء». أبو هريرة، الرجل الثاني في «فتح الإسلام»، كان أحد عشرات الأولاد الذين ولدتهم القابلة في منازل «الغرباء» الطينية وتخشيباتها. وبحكم مرافقته والده إلى سوق الخضر حيث كان يعمل «عتالاً»، وتمضيته معظم وقته في مياه نهر أبو علي الآسنة، ومساعدته أهله في قطف ثمار أرضهم في قرية مشمش العكارية، اكتسب الطفل مناعة مميزة، وقوة جعلت معظم صبية الحي يهابونه.
يقع منزل أهل أبي هريرة في القسم الأول من الحي. بوابّته زرقاء أُلصقت عليها من الداخل شعارات إسلامية. وفوق طاولة صغيرة قرب الباب، طويت صورة للرئيس الحريري «تقدمة الحاج فادي عدرة». يتألّف المنزل من غرفتين. قبالة الباب مباشرة، يتربّع والد أبو هريرة الذي يبدو مشتّت الذهن، ومسترسلاً في أفكاره. أمّا الوالدة، فتنزوي خلف ابنتها صباح، مردّدة بصوت خجول أنّ قلب الأمّ لا يمكن أن يكفّ عن حب ابنها. وعبثاً تحاول السيّدة المسنّة التحكّم بعيونها الدامعة، المرتبكة من خطورة الإفصاح عن حقيقة مشاعرها، فيما تحتضن أحد أبناء أبي هريرة الثلاثة الذين أحضروهم من مخيم عين الحلوة، تاركين للوالدة طفلين آخرين.
تروي صباح التي سرت شائعات عن اعتقالها، أن شقيقها شهاب قدورة الملقب أبو هريرة، كان يصعد سباحة وغطساً، قبل بلوغه الثالثة عشرة، من مجرى نهر أبو علي حتى منطقة أبو سمرا التي تبعد مئات الأمتار. وتنفي الشائعات عن مساعدته لعناصر التوحيد الاسلامي، تلك الشائعات التي دفعت السوريين إلى اختطافه، وهو بعد في صف «البروفيه»، وسجنه في سوريا ستّ سنوات عاد بعدها متديناً وعلى علاقة بالإخوان المسلمين في سوريا. وكان يقضي ساعات عدة في تكرار روايات عن التعذيب الذي تعرض له في تلك السجون مجاهراً بكرهه للسوريين. علماً بأن شقيقه الأكبر كان جندياً في الجيش اللبناني واختطف أثناء حرب التحرير على حاجز لحركة أمل سلمه عناصره لاحقاً للسوريين الذين أبقوه في مركز البوريفاج ثلاث سنوات، وأطلقوه بعدها لإصابته بحروق والتهابات.
وبعد عدة أشهر، تروي شقيقته: فتح شهاب مطعماً في أبو سمرا ثم تزوج فلسطينية كان قد تعرف إليها في مخيم عين الحلوة أثناء زيارة سريعة استمرت يومين. وبعد جمعه بعض الأموال، فتح «نتافة» في منطقة القبة. لكن إثر اغتيال رئيس جمعية المشاريع الاسلامية (الأحباش) نزار الحلبي في 31 آب 1995 اتهم قدورة بالمشاركة تخطيطاً وتنفيذاً، ودهمت القوى الأمنية منزل أهله في «الغرباء»، الأمر الذي اضطره للانتقال إلى مخيم عين الحلوة حيث انتمى إلى «عصبة الأنصار» التي يتزعّمها أبو محجن. ويقول أحد معارفه، إنه في تلك المرحلة كان أقرب إلى سلفية «الهداية والإحسان» المقربة من النظام السعودي. واستند متهموه في تلك العملية إلى كرهه الشديد للسوريّين والإسلاميّين المقرّبين منهم.
في التعمير، عمل أبو هريرة بائعاً للقهوة، وتملك منزلاً من طابقين. ونسج علاقات اسلامية واسعة، علماً أن لحيته، بحسب شقيقته، ليست طويلة، ويرتدي ثياباً عادية، ولا تدل تصرفاته على تشدده الديني. وتقول صباح إنه انتقل بصحبة المئات من رفاقه بأسلحتهم الصغيرة والكبيرة من عين الحلوة إلى نهر البارد. وتقسم الشقيقة التي تصغره بسنتين، أن شهاب ليس سورياً، وأنّ ذكر كلمة (سوريا) أمامه مرتين يحوله إلى وحش حقيقي. وتسأل أين كان القادة السياسيون الحاليون عندما خطف السوريون إخوتها؟
أما أطفاله، فيبدون في شوق لضمة والدهم، ويتحدثون عن شخصيته اللطيفة واستعداده الدائم للّعب معهم، وتدريسهم، وتشجيعهم على الاهتمام بالكومبيوتر والإنترنت. ويرتبكون عند سؤالهم عن آخر مرة التقوا فيها والدهم، تاركين لجدتهم الجواب. فيما تبرق عيون أوسطهم حين تتحدث العمّة عن سعي ابن شقيق «أبو هريرة» الأكبر للنجاح في امتحانات المدرسة الحربية.
بعيداً عن حي الغرباء، في أعالي جرود عكار، تطل بلدة مشمش السنيّة من خلف كنيسة بلدة القريات. وترتفع اللافتات مؤكدة الوقوف مع الجيش اللبناني. وينفي أهل مشمش معرفتهم بابن بلدتهم أبو هريرة. وحتى سكان المنزل المجاور لمنزل خضر قدّور، والد أبو هريرة، ينكرون معرفتهم بهذه العائلة. أما المختار خالد الخالدي، فيوضح اقتصار ارتباطهم بالبلدة على بعض الزيارات الموسمية لقطف التفاح والكرز من البساتين التي يملكونها في أحراج البلدة.
من ناحية أخرى، يكشف أحد عارفيه في البلدة، أنه قاتل في العراق سنتين، وتحول أخيراً إلى ما يشبه منسق الاتصالات بين مختلف الفصائل اللبنانية والفلسطينية المتشددة رغم رفضه التواصل مع «الأحباش» لحساسيته من الأطراف المقرّبة من سوريا. أما الفلسطينيون النازحون إلى مخيم البداوي، فيصفون أبو هريرة بالمتعجرف والعنيف الذي كان يتجول وسط منازلهم محاطاً بعشرات الحراس المدجّجين بالأسلحة.
هكذا، بين إنكار أقرباء أبو هريرة وجيرانه معرفتهم به، وتردّد أهله في تبرير أفعاله، واستغراب أبنائه ما يحكى عنه، يمضي أبو هريرة صوب تنفيذ وعده بمنع الجيش من دخول المخيم إلا على جثته. أمر تجده والدته غير قابل للتصديق، وخصوصاً لخرّيج السجون السورية العصيّ على الموت.