أنطوان سعد
يبدي مرجع سياسي كبير أمام مقربين منه قلقه من الحال السياسية والأمنية الدقيقة التي يجتازها البلد منذ نهاية العام الماضي، والتي تزداد تفاقماً يوماً بعد يوم، وخصوصاً في ظل ما يجري من أحداث خطرة في مخيمي نهر البارد وعين الحلوة، ويعرب في شكل خاص عن خشيته أن يكون الجيش اللبناني أمام امتحان صعب وموضع تجاذب واستهداف في الأيام المقبلة نتيجة التعقيدات على الساحة اللبنانية وتضارب مصالح الطبقة السياسية.
غير أن هذه المرجعية مطمئنة إلى أبعد حد إلى تماسك الجيش وقدرته وانسجام قيادته التي برهنت عن «عقلانية مرتفعة» مع هيئة أركانه وسيادة معنويات عالية لدى الضباط والجنود الذين باتوا يشعرون بأن «ضبط الوضع في نهر البارد لم يعد مجرد مهمة عسكرية عليهم تنفيذها على أفضل وجه، بل قضية شخصية متعلقة برؤيتهم إلى دور الجيش في إرساء الأمن وتحقيق الاستقرار لأهلهم وأبنائهم».
وتؤكد هذه المرجعية أن ما يحتاجه الجيش فقط هو استمرار الجو السياسي اللبناني الداعم له وعدم عرقلة مهمته كما حصل سنة 1973، إضافة إلى تأمين دعم لوجستي في العتاد له. فالجيش في الواقع لم يحظ بتسلح جدي منذ ما يقارب ربع قرن عندما قام قائد الجيش السابق العماد إبراهيم طنوس في عهد الرئيس أمين الجميل بأكبر عملية تحديث وإعادة هيكلة في تاريخه لا تزال متبعة حتى الآن، لكن الحاجة تبدو ماسة اليوم لتعزيز ترسانته العسكرية وعتاد أفراده من دروع وخوذ وبنادق وذخائر. وباختصار، تحتاج المؤسسة العسكرية حالياً إلى كل شيء.
إذ بالتسليح الأميركي الذي حظي به خلال العامين 1982 و1983 خاض الجيش معارك طاحنة في سوق الغرب وبيروت والشحار الغربي وحربي التحرير والإلغاء من غير أن تتوافر له مصادر تموين باستثناء ما حصل عليه من العراق سنة 1989 من مدفعية صينية وقذائف من عيار 133 ملم، وما اشتراه الرئيس الياس الهراوي سنة 1991 من «القوات اللبنانية» بقيمة خمسة ملايين دولار من قذائف من عيارات مختلفة، وما حصل عليه من سوريا في مطلع التسعينيات من مدفعية عيار 122 و130 ملم، وهي أيضاً صينية ولا تتمتع بجودة كبيرة.
ويقول ضابط سابق في الجيش إن ما تقوم به القوات المسلحة النظامية من مهمات دقيقة، لا بل خطيرة، وبالوسائل المتواضعة المتوافرة لديه، وفي ظروف سياسية كثيرة التعقيد، أشبه بمعجزة تبرهن عن قدرات قتالية مرتفعة وتصميم كبير منقطع النظير. وما يجدر التوقف عنده ملياً هو تمكن الجيش منذ تظاهرة الرابع عشر من آذار سنة 2005 من البقاء موحداً وعلى مسافة واحدة من طرفي النزاع اللذين عطّلا كل المؤسسات الدستورية وشلا الحياة العامة وفتحا البلاد على مختلف المخاطر. ولعل أبرزها ما جرى في لبنان يومي الثالث والعشرين والخامس والعشرين من كانون الثاني الماضي عندما ارتدى النزاع بين القوى السياسية طابعاً طائفياً حاداً هدد بشَرِّ العواقب.
ويرى المراقبون السياسيون، المطلعون على ما يجري داخل المؤسسة العسكرية، أن نجاح الجيش في معالجة الوضع في تلك المرحلة كان بمثابة الدليل القاطع على أن العقيدة القتالية لديه منبثقة من قلب وجوهر التجربة اللبنانية القائمة على الديموقراطية التوافقية. فالجيوش في الدول الديموقراطية الغربية مجرد أداة عسكرية تنفذ تعليمات السلطات السياسية من دون مناقشة. في المقابل، تؤدي القوات المسلحة دوراً كبيراً في تحديد اتجاهات الحياة السياسية في بعض الدول المحيطة بلبنان وفي الأنظمة القائمة على الإيديولوجيات مثل تركيا وما بقي من المنظومة الاشتراكية. أما في لبنان فقد تمكنت قيادة الجيش منذ اللواء فؤاد شهاب وصولاً إلى العماد ميشال سليمان من استنباط عقيدة قتالية وطنية غير سياسية منسجمة مع الطابع التوافقي للنظام اللبناني، ليس الجيش فيها مجرد أداة صامتة عمياء في يد من يمسك السلطة، وفي الوقت نفسه لا دور مباشراً لها في تحديد اتجاهات الحياة العامة وفي التأثير على الممارسة الديموقراطية وعملية تشكُّل السلطات الدستورية.
لقد فرضت الظروف المعقدة التي يعيشها لبنان في شكل متواصل على قيادة الجيش استنباط هذا الدور. وهو دور يزداد وينقص بمقدار ما تعجز الطبقة السياسية عن إيجاد الحلول للأزمات التي تعصف بالبلاد تماماً كدور مرجعية بكركي صمام الأمان الآخر للكيان اللبناني.