أنسي الحاج
إنّنا نُغيظ القاتل، حذار! يَقْتلنا لننقتل، فإذا بنا ننتعش! حذار! لقد اعتدنا الموت، والقاتل لا يريدنا كذلك، يريد أن يوجعنا وأن يوجِع بنا. فلننوجعْ! على الأقلّ، لنتظاهر بالوجع، وإلّا تكون ضربته التالية أفظع. حذار! إننا نُغيظ القاتل ولا نتجاوب كما يُفْتَرض بالضحيّة. كأننا متنا قبل أن يَقتلنا!
زارتني البارحة آنسة كانت في مقهى شاتيلا لحظة انفجار المنارة الذي أودى بالنائب عيدو ورفاقه. فنّانة مرهفة كحمامة بيضاء. كتبتْ كلمة بالدارج تقول فيها صدمتها. تقول إن الرثاء صار معدّاً سلفاً. إنّنا تَمْسَحْنا. ترجو الخطباء أن يكتفوا بعبارة «عشتم» دون «وعاش لبنان». قالت: «ما حدا سئلان عنّك وعن بلدك. الموت صار عادي. نحن كلّنا ميتين».
لم أقل للزائرة ولا كلمة تشجيع. بالعكس. حَمّسْتُها على الهجرة. قلتُ لها إن الهجرة من لبنان تعيد إليه الحياة، لا تسلبه الحياة. احترمتني ظاهريّاً لكنّها لم تصدّقني. غداً ستعود إلى شاتيلا ــــــ الروضة. اليوم نزرع اليأس وغداً يطلع الأمل.
حذار! حذار أيّها الأحياء! إنكم لا ترحمون القَتَلة! لا تشعرون معهم! أي ابتكار تريدون حتّى تُروَّعوا؟ أنتم والعراقيون والفلسطينيون، فشلت معكم كلّ الأساليب. إنكم تجنّنون مَكاتب الخيال. حذار! حذار أيّها الباقون على قيد الحياة!

القاتل الحديث فرويد على هتشكوك على تكنولوجيا هوليوود.
سباق الآمنين مع الإرهاب الإبداعي.

... هناك أمر لا يعرفه فنّان القتل، أمر لا يستطيع حياله شيئاً: إنه فراغُ منسوبِ الخوف.
شجاعة الحماسة فقاقيع. شجاعة نهاية الخوف لا حدود لها، فهي الوحيدة الأقوى فعلاً لا من الموت فحسب بل من الحياة.
هذا ما يحصل للبنانيين: انتهى مخزونهم من الخوف.
فحذار! أيّها القاتل! حذار!

يذهب الخوف يجيء الفراغ. بماذا تملأ الفراغ، بدمك أم بدم غيرك؟ أم بالهواء؟ في الخوف، معروفة، أمّا الفراغ فأحشاؤه مبهمة. الخوف يدعو للهرب. الفراغ يقول: أنا هربك فأين تَذْهب ورائي؟
انظرْ، كلّه تهديد. لا تنظرْ، كلّه تهديد... افتحِ الباب، لتدخلِ الأشباح! العواصف كلّها أرحم من هذا الانتظار.

الأنشطة العقلانيّة (والحروب، وورش العمل، والتسابق إلى المال...) تترك المجال رحباً لمَن يتقنون انتهاز الغياب. صفحات كتاب فلسفي، مثلاً، هي أشبه برمال صحراء تنتبه بعد الطواف بها أن الرحلة كانت منذ البداية «لإبعادك»!

«سجا الليل، تعالوا! عندي كلُّ شيء، الثروة والحبّ، الميسر والنساء! أبيعُ كلّ بضاعة، حتّى الانتحار والاغتيال. أنتم يا مَن لم تأكلوا منذ البارحة، أنتم المتوجّعون، أنتم الباكون، تعالوا إليّ: سترون كم نحن أغنياء، سترون كم نضحك. هل لديكم ضمير أو صبيّة للبيع؟ هلمّوا! سيملأ الذهب عيونكم والفسقُ آذانكم، ستعومون في الرذائل، في الفساد وفي النسيان.
تعالوا إلى هنا الليلة، فغداً قد تكونون في عداد الأموات».
(إسكندر دوماس، في قصة «المرأة صاحبة عقد المخمل»)
وضع هذا الكلام على لسان «الباليه رويال» الذي تحوّل في عهد الثورة الفرنسية إلى مركز للدعارة ومختلف أشكال اللهو والعبث. ترجمة هذه العبارة الآن هي بلا مناسبة واضحة. نحن في زمن أنتي ــــــ ثوري، وليس عندنا قصر حُوِّل إلى ماخور. ولكن سجا الليل في بلادنا أيضاً. ليتَ شيئاً فاسداً كهذا يعوّض علينا!

الكتابة تحصل دائماً في غربة. لا لزوم لأن يكون الكاتب مختلفاً عن محيطه لتحصل الغربة، ولا لأن يشعر بالغربة. الكتابة في محض ذاتها فعْل اغتراب.
نادراً ما يكون الكاتب في عشيرته. قد يظنّ نفسه في حرارة روحه بين أهله وصحبه، وإذا حاول أن يسحب الغطاء في الصقيع مزيداً نحو وجهه يكتشف أنه عارٍ وما كان غطاء. وحيثما يذهب سيكون الغطاء أنفاسه وبخار روحه.
الكـتابةُ وَطَــنُ ذاتها. الفـنـون كلّها. وقــد تغدو أوطــاناً لقرّائها أو مغتربات، هم وحظّهم، هم ومأربهم.
حيث القلم يَكْتب ليس الورقة، إنه الفراغ.

ــــــ أنت تعرف... فلماذا تنتظر؟
ــــــ لأن للانتظار إرادة مستقلّة.
ــــــ وهل أخيفك؟
ــــــ يخيفني خوفكِ.
ــــــ تأمَّلْني، ما الذي تراه؟
ــــــ أرى لحماً حتى الروح.
ــــــ قد أكرهك.
ـــــ بعض الأبواب المغلقة هو الأكثر شوقاً للانفتاح.
ــــــ وماذا نفعل؟
ــــــ بماذا؟
ــــــ بخصلات الشيب التي اعتلت رأسك، وبتفاصيل جسدي الكبير الصغير؟
ــــــ أفْضَل للجاهل أن يظل جاهلاً، وللعالِم أن يزداد جهلاً.
ــــــ أنا أعرفك ولن تصدّق إن أخبرتك...
ــــــ ماذا تعرفين؟
ــــــ أن مكتبك لا يحوي سوى بعض الساعات المعلّقة، وأنك رجلٌ يعتقد أحياناً أنه بات جالساً في الوقت، ويسكنه ويبكيه أحياناً كثيرة. هل سمعت؟
ــــــ في البداية يولد المرء في عيون الآخرين غير ما هو، وفي النهاية يموت في عيون الآخرين غير ما هو.
ــــــ ألا تصدّق أنّني لن أخلّصك؟
ــــــ لا يُطْلَبُ الخلاص حقّاً إلّا يجيء.

يُتَعامَل مع العري كمظهر. الغلاف الداخلي بعد الغلاف الخارجي، أي الثياب. مظهر ويجب ستره لأنه ملْك خاص.
لكنّ العري هو طليعة الجوهر، فيه تَنْعرض ملامح من النفس، فالعري هو فضيحة النَفْس أكثر ممّا العينان هما نافذتا الروح. أجساد كثيرة ما إن تتعرّى حتّى يفيض المكان بـ«الاعترافات».
العري غَطْس أصداء الذاكرة في موج الحاضر.

يا ملاك لا نراه، هل حَسْبُكَ أن اللّه يراك؟
جميع الأشياء ذاهبة إلى العَدَم ما لم تنتشلها يدُ الخيال.

هناك نشاز في شخصيّة دون جوان تنوريو وأسطورته: جانب المغامر القبضاي. ذو الهمّة والمبارزة والمطاردة. الخطط الواقعيّة.
خصال تتنافى مع صورة أخرى للعاشق، للعلاقة. صورة تعتقد أنه ليس على العاشق أن يناضل عمليّاً لتحقيق مبتغاه، بل أن يعطي الكلمة لوهج رغبته وللتناغم الكيميائي. يجب أن يَنْوصل التيّار بين العشّاق من تلقائه، ويُترك للصدف أن تتولّى «المساعدة الخارجيّة».

أَنْ يُعْثَر لا على أيّة ضالة كانت بل على ضالة الحلم المحموم، هذا هو معنى النصف الآخر.
اكتشافٌ كهذا قد تُعاش حياة إلى نهايتها ولا يحصل.
لا بأس.
ولكنْ أَنْ يَحْصل... ولا يتحقّق!؟

حتّى الأدب الملحد، عندما يكون مسلوخاً من القلب، لا يُكبّر القلب فحسب بل يَصْنع نوعاً من الإيمان.

ليس الوحيدُ مَن لا يرى أحداً بل مَن لا يراه أحد.