غسان سعود
أحداث البارد تستعيد صور «غزوة التباريس» ومقولة بيار الجميّل «لا يمكن أن تقول للخائف: لا تخف»

يروي أحد الأساقفة الموارنة أن البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير بدا شارداً جداً أثناء سماعه، عقب اندلاع معارك نهر البارد، تهديد تنظيم «القاعدة في بلاد الشام» بتنفيذ تفجيرات في لبنان وهجمات ضد المسيحيين، وخصوصاً أن إذاعة البيان أعقبت تناقل وكالات الأنباء العالمية خبراً من العراق عن إقدام مسلحين على اغتيال الأب رغيد كني وثلاثة شمامسة أثناء خروجهم من الكنيسة.
هذه الأحداث التي تترافق مع مسلسل التفجيرات المتنقلة والشائعات عن اكتشاف عبوات، وقيام مجموعات ميليشياوية سابقة بأعمال الحراسة في بعض الأحياء المسيحية لمنع المس بـ«أمن المجتمع المسيحي»، كلها تدفع بالأسقف نفسه الى التأكيد أن «حال المسيحيين اللبنانيين اليوم ليست بخير، وأنهم خائفون من تجربة تشبه تلك التي اختبرها المسيحيون العراقيون الذين راهنوا، مع أقرانهم من العراقيين، على الحرية الأميركية».
ومنذ اندلاع المواجهات بين الجيش وتنظيم «فتح الإسلام»، يستعيد مسيحيون كثر صورة أحداث 5 شباط 2006، عندما «اجتاح» السلفيون حي التباريس في الأشرفية، وهاجموا سفارة الدنمارك، وعاثوا في المنطقة تخريباً، احتجاجاً على الرسوم المسيئة للرسول التي نشرتها صحيفة دنماركية. يومها «اكتشف» المسيحيون، عن قرب، العصبية السلفية بـ«أمرائها» وشعاراتها وتعصّبها ضد «النصارى»، وهم الذين كانت قوى سياسية تعمل ليل نهار على تطمينهم الى أن هؤلاء «حلفاء في معركة الحرية والسيادة والاستقلال» في وجه سوريا «وعملائها»، وخصوصاً حزب الله «الأصولي المتعصّب والساعي الى إقامة جمهورية إسلامية في لبنان، تعامل المسيحيين كأهل ذمة».
أحداث الشمال التي أماطت اللثام عن «السلفية الجهادية» التي تكفّر كل الآخرين، تدفع مروحة واسعة من المفكرين والسياسيين ورجال الدين المسيحيين الى مراجعة «ثوابتهم»، ونظرتهم الى الآخر اللبناني، انطلاقاً من استحالة وضع صورة الشمال السلفي خلف ظهرهم والمضي قدماً غافرين للجماعات المتشددة ذنوبها كما حصل إثر ذبح العسكريين في الضنية عام 2000، وشغب 5 شباط 2006.
ويقول أحد القادة السابقين في «القوات اللبنانية» إن المسيحيين «يشعرون اليوم، للمرة الأولى منذ عام 1975، بالخوف على وجودهم، ويهجسون بأسئلة عن الأسباب التي جعلت الكلام على إمارة إسلامية في الشمال ممكناً، وعمّن طوّق طرابلس بجوامع ضخمة، ولماذا لم تثر قضية نزوح أكثر من 80 في المئة من مسيحيي المدينة إلى الأقضية المجاورة، ومن موّل تعليم شبان المدينة في الجامعات الخليجية على نفقته الخاصة ليعودوا ضليعين بكل تفاصيل السلفية، والجهادية منها بشكل خاص».
ويعدّد نائب مسيحي شبه محايد عشرات التحولات في المعالم الدينية من كنيسة مدرسة الراهبات قرب الأونيسكو في بيروت، التي تحولت قاعة رياضية، إلى الشعارات الإسلامية التي تضاء ليلاً قبالة دير البلمند في الشمال، الى رفض المعنيين مراجعات مخاتير الأشرفية وبعض البلدات المسيحية في إقليم الخروب وعكار لخفض صوت مكبرات الصوت في المساجد.
ويتساءل النائب نفسه عن سبب عدم إطلاق «الحكومة الاستقلالية الأولى» بعد الخروج السوري اسم الرئيس الشهيد بشير الجميل على أوتوستراد واحد، مثلاً، في مقابل إطلاقها اسم الرئيس الشهيد رفيق الحريري على مطار بيروت، ومعرض الكتاب، ومستشفى بيروت الحكومي، وأوتوسترادات عدة. وأبعد من الأسماء، يشير الى أن المسيحيين «يبحثون، عبثاً، عن تغيير إيجابي واحد لمصلحة المسيحيين في وظائف الدولة، وفي المواقع التي اتهم السوريون بإبعاد المسيحيين عنها».
محلل سياسي غير بعيد عن أجواء 14 آذار يلفت الى الحي المسيحي في بلدة العبدة عند مدخل عكار، الذي انتقل معظم سكانه إلى منازل أقربائهم في البلدات المجاورة، «لعدم ثقتهم بقدرة أجهزة الدولة على حمايتهم». وهذا، بحسب المحلل نفسه، «يعيد المسيحيين إلى كلام سابق لرئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس مطر يقول فيه إن هجرة المسيحيين ليست نابعة من شعورهم بالاضطهاد، بل من تراجع حضور الدولة التي ساهموا في إنشائها». ويوضح أن «الخلاصة الأوضح بالنسبة إلى المسيحيين، بعد سنتين على خروج السوريين، تختصر بتراجع حضور الدولة. وهذا، على رغم كل المزايدات، يحبطهم بشكل استثنائي. فيما يتراكم بؤسهم حين يشاهدون الصفعة لدولتهم تأتي ممن اعتقدوه شريكاً صادقاً في بناء الدولة».
وفي السياق نفسه، يرى القيادي القواتي السابق أن مؤسس حزب الكتائب بيار الجميل كان سينفجر غضباً في وجه الحكومة الحالية، ويردد مقولته الشهيرة «لا يمكن أن تقول للخائف: لا تخف»، مشيراً إلى تململ مسيحي من «الحكومة السنيّة» التي لم تتمكن، عملياً، من توجيه الإدانة الى شخص واحد في التفجيرات التي ترهب المناطق اللبنانية عموماً والمسيحية خصوصاً، على رغم الخيطان الكثيرة التي تربط هذه التفجيرات بالمجموعات الأصولية. ويختم القواتي «العتيق»، المتمرد على قيادة القوات الحالية، بالإشارة الى أن المسيحيين اليوم «في طور تحديد معالم رد فعلهم على وحش الأصولية، وحتى أسذجهم لم يقتنع بسورنة المتمردين الجدد على الدولة، وإنكار رعايتهم من قبل أقطاب في الأكثرية».