إبراهيم الأمين
«الفرنسيون الجدد» في حالة إحباط، وابتسامة الشماتة تعلو وجوه «القدماء» منهم. جاك شيراك يطل من شقته، المسجّلة باسم آل الحريري، مبتسماً، فأشباحه تحوم فوق الرئاسة والخارجية. وقادة 14 آذار في بيروت يرتاحون في مقاعدهم، لأن المعلّم الأميركي وعدهم بأن أحداً في العالم لن يجرؤ على تغيير سياسته في لبنان.
وحده برنار كوشنير حاول اختراق الجدار، ومبعوثه الى بيروت والمنطقة جان كلود كوسران عاد، هو الآخر، مكسور الخاطر من بيروت. لم تُرفَض دعوته، لكنه لم يشعر بالحرارة التي كانت تخرج من الشاشات التي تعرض لعلاقات أسلافه مع أركان الحكم في لبنان. ومع ذلك فهو اهتمّ كثيراً بالنتيجة، وعندما سأله معنيّ في باريس إثر مغادرته لبنان، أجاب بالحرف: «الوضع أكثر اهتراءً مما كنت أتصوّر، ويجب العمل بقوة وبسرعة»!
العبارة المقلقة التي سمعها كوشنير زادت من معاناته: مبادرته في دارفور فشلت، والزوّار من الولايات المتحدة يتحدثون بصوت مرتفع يُسمع صداه في باريس وبقية أوروبا. كما أنه بات يدقّق في تقارير تنبّه ألى أن في وزارته، كما في محيط الرئيس نيكولا ساركوزي، من يدعو الأخير الى «أخذ مسافة جدية من مبادرات اليساري المغامر لئلا تصاب إدارته بنكسة مبكرة».
والضغط الذي نشأ خلال هذه الفترة القصيرة أدى الى خلاصات أوّلية، منها أنه لا يمكن الإدارة الفرنسية الجديدة الشروع في حوار منفرد، او باسم أوروبا، مع سوريا، وأن واشنطن ترفض بشدة أي حوار أوروبيّ ــــــ سوري ــــــ إيراني في معزل عن جدول أعمالها الأصلي، وهي مستعدة لتخريب هذا الأمر، وقد عملت على ذلك فعلاً في لبنان، وتعمل عليه في فلسطين. وبما أنه ليس بين أيدي اللبنانيين معلومات موثّقة تكشف هوية من اغتال النائب وليد عيدو، وأن الأمر يقتصر على تكهنات واتهامات سياسية ربطاً بما يمثله الرجل، فلا بأس من طرح السؤال الأساس عن المستفيد من عملية الاغتيال هذه، الأمر الذي لا ينفي بالمطلق وجود مصلحة أميركية تمثّلت في إرباك المسعى الفرنسي من جهة، ووقف المسعى السعودي ــــــ الإيراني من جهة ثانية، وإعادة تيار «المستقبل» الى موقع متقدم على وليد جنبلاط وسمير جعجع في رفض مشاريع التسوية.
لقد ظهر أن اغتيال عيدو، معطوفاً على استحقاق الانتخابات الفرعية وعلى ما يجري في غزة، قد فرض تعديلاً جدياً في جدول الأعمال الفرنسي، والحرارة التي بدا أنها تراجعت في العلاقة مع فريق 14 آذار عادت الى الارتفاع، إذ سُجّل كثير من الود في الاتصال الذي جرى بين ساركوزي والرئيس فؤاد السنيورة، وهو الأمر الذي تُرجم بدعوة الأخير إلى زيارة فرنسا في 26 الجاري، ما يعني أن لقاء آخر الشهر الحواري اللبناني في باريس بات في حكم المؤجل.
وفي العاصمة الفرنسية من يتحدث عن العلاقة مع قوى المعارضة في لبنان بشيء من القلق، ويربط الخطوات اللاحقة بالموقف الذي ستتّخذه حيال الانتخابات الفرعية من جهة وحيال احتمال قيام حكومة ثانية في لبنان.
أكثر من ذلك، فإن المتابعين للملف اللبناني في فرنسا عن قرب، يشعرون بقوة نفوذ الفريق المسمّى الآن «بقايا شيراك»، وهو نفوذ واضح في عدد كبير من وسائل الإعلام، وفي أوساط بعض النخب، إضافة الى الحضور المستمر في وزارة الخارجية كما في قصر الإليزيه. وثمة تأثير واضح لهؤلاء في العلاقة مع قوى المعارضة في لبنان، وكشفت وقائع الأيام الماضية أن لهؤلاء تأثيراً حتى في فبركة أحداث لم تقع، أو ترتيبها بطريقة مختلفة، ووصل الأمر حدّ اعتراض دبلوماسي فرنسي «على الاندفاعة الكبيرة في اتجاه فريق 8 آذار التي وصلت إلى درجة أن كوسران أخّر الاجتماع مع السنيورة الى ما بعد اجتماعاته مع الآخرين»، ما اضطرّ أحد المعنيين هناك الى توضيح الصورة بأن «السنيورة هو من أرجأ اللقاءين الأول والثاني، وأن كوسران لم يكن لينتظر الموعد الثالث حتى يُجري بقية اجتماعاته». ويورد المصدر هذه الحادثة ليدلّ على أن فريق 14 آذار مستعد لأداء أي نوع من الأدوار القذرة التي تجعله رابحاً في أي وقت.
أما الأمر الآخر فيتصل بلائحة المدعوين الى لقاء باريس، وخصوصاً ما يتعلق بـ«حزب الله»، وهو ما دفع بالجانب الأميركي الى الاعتراض مباشرةً وبقوة، علماً أنه لم يكن سهلاً على فريق كوشنير تبرير دعوة الحزب الى حضور لقاء باريس، لأن الدبلوماسية التقليدية الفرنسية كانت تريد الاحتفاظ بمستوى معين للعلاقة مع الحزب، فإما أن يبقى الاتصال العلني على مستوى شخصيات قريبة من الحزب مثل الوزير طراد حمادة وشخصيات أخرى، أو أن يكون التواصل غير معلن كما هي حال السفير الفرنسي برنار إيمييه ومساعديه في بيروت ممن يتواصلون تقليدياً مع قيادة «حزب الله»، بما في ذلك الاجتماع سراً بأمينه العام السيد حسن نصر الله.
مجمل هذه المعطيات، الى جانب الضغط الأميركي الجدي، دفع بالإدارة الفرنسية الى التمهّل في بعض الخطوات، فتقرّر أوّلاً إرجاء زيارة كوسران الى دمشق حتى إشعار آخر، علماً أنه تردّد، بقوة، في باريس عن زيارة غير معلنة قام بها رئيس الاستخبارات السورية آصف شوكت الى العاصمة الفرنسية، عقد خلالها اجتماعات مع نظراء له ومع مسؤولين قريبين من ساركوزي.
إلّا أن برنامج كوسران الخاص بالدول الأخرى لم يتأثر، وهو ينوي التوجّه في اليومين المقبلين الى واشنطن، ومن المقرر أن يوسّع اتصالاته ويحضّر لزيارة إيران قريباً، كما أنه سيواصل عقد اجتماعات مع جهات معنية بالملف اللبناني، وهو على تنسيق مع الجميع، برغم إدراكه أن صعوبات حقيقية تواجه مهمته، وأن احتمال الفشل يوازي، بل قد يزيد على، احتمال النجاح. لكنّ المؤشرات لا تقود الى استنتاج بأن دوره سيتأثر شخصياً، لا بل إن الحديث يدور عن ترشيحه لتولّي مهمات سفارة كبرى لبلاده، وإنه على تواصل دائم مع الفريق القريب من ساركوزي، ويجري التعامل معه من جانب الرئاسة والخارجية على أنه واحد من مجموعة صغيرة تملك القدرات المهنية والعقلية والمواصفات المؤهلة لأداء دور مركزي في قضايا الشرق الأوسط.
فيما لا يبدو الأمر على هذا النحو مع كوشنير، الذي قد يكون مضطراً إمّا إلى العودة الى أداء دور داخلي او المغادرة السريعة لموقعه، وخصوصاً أن رئيس مجلس الأمن القومي الفرنسي جان دانيال ليفيت لا يخفي رغبته الإمساك بوزارة الخارجية، من ضمن آلية تُبقي هذا المنصب تحت السيطرة التقليدية لقصر الرئاسة، علماً أن ليفيت يمسك حالياً بخلية كبيرة من المستشارين العاملين على كل ملفات الخارجية.