عمر نشابة
العامل الأهمّ في المهمات الأمنية هو المعرفة. وبالتالي فإن مستوى كفاءة المؤسسات المعنية بالأمن يُقاس بحسب قدرتها على جمع المعلومات المتعلّقة بالجريمة قبل وقوعها وأثناءها وبعدها. الأسلوب الأنجع لجمع تلك المعلومات هو عبر التخفي والسرية. لكن تقنيات تطبيق هذا الأمر البديهي لا تخلو من التعقيد.
سنستطلع الموضوع من جانبين متواجهين لا بل متصادمين، إذ إن دراسة آليات معرفة السلطات الأمنية والعسكرية تبقى سطحية من دون محاولة عرض آليات معرفة القوى أو الأشخاص الذين قاموا ويقومون بأعمال إرهابية في لبنان. ولعل أبرز ما يمكن تناوله في هذا الإطار هو المعلومات التي تسهّل الأجهزة الأمنية، عن غير قصد، على المجموعات الإرهابية مهمّة جمعها. فبحسب التحليل المنهجي، العديد من إجراءات الأمن والحماية المعتمدة يسهّل على الإرهابيين جمع المعلومات وبالتالي تصبح قوى الحماية خطراً على أمن الأشخاص المكلفة حمايتهم. فصفارات الإنذار والمظاهر الاستعراضية العسكرية أثناء مرور الأشخاص المستهدفين وإجراءات التفتيش والاتصالات، وحتى نوعية وسائل التنقّل والكاميرات الظاهرة، كلّها تعلن وجودها، وبالتالي تعطي الإرهابيين فرصة الإفلات منها. فكلّ الإجراءات التي قد تشاهَد أو يعرَف بوجودها يمكن ابتكار أساليب للإفلات منها، والمثل الواضح على ذلك هو الإجراءات الأمنية التي كانت تُعتَمَد لحماية الرئيس الشهيد رفيق الحريري بما فيها الهوائيات التي كانت مركّبة على سياراته والتي تدلّ على نوع الحماية المستخدم وتقنيته. هذا لا يعني أن الغياب شبه الكامل للعناصر الأمنية الكفيّة هو الحلّ، فمثل جريمة اغتيال الوزير الشهيد بيار الجميّل يدلّ على أن الوضع الأخطر هو غياب التخفّي والسريّة، إضافةً الى غياب عناصر حماية من ذوي الكفاءة القتالية لا كفاءة استعراضات «التنمير» على المواطنين.
لكنّ عناصر القوى الأمنية والعسكرية والأمن الخاص والمرافقين لا يسمح لهم غرورهم، رغم فشلهم «الذريع» (كما وصفه بيتر فيتزجيرالد في تقرير لجنة تقصي الحقائق عام 2005 ولم يتغيّر شيء منذ ذلك الحين) باعتماد أو حتى التفكير في أساليب حماية بعيدة عن التشبيح. إضافةً الى تعاطي عناصر الحماية بالشؤون السياسية، ما يمثّل مخالفة للقانون إذا كانوا تابعين لقوى الأمن الداخلي. أمّا غيرهم من عناصر الحماية فيشدّد الشخص المحمي على أن يتعاطفوا معه سياسياً وعقائدياً ويحرص على معرفة عائلاتهم وخلفياتهم التاريخية من دون أن يكترث لكفاءاتهم العسكرية والقتالية ودقّة تحرّكاتهم ومدى تنبّههم للأخطار. أما تقنيات التخفّي والسرّية فهي شبه مغيّبة عن الاعتبارات الجدّية في تحديد وسائل الحماية. بين تلك التقنيات التي يُفترض تقديمها على الإجراءات الأخرى المعتَمَدة:
عنصر التمويه الأمني
التمويه لا يتمّ فقط عبر استخدام الزجاج الأسود للسيارات والآليات، فهذا قد يدلّ على أن هناك شيئاً ما أو شخصاً ما في السيارة لا يراد معرفته. وبالتالي قد يصبح الزجاج الأسود علامة تدلّ على هدف محتمل. لكن التمويه الحقيقي هو عبر استخدام السيارات العادية جدّاً التي لا تشير الى أيّ علامة فارقة. ويمكن تجهيز تلك السيارات من الداخل على نحو يمكّنها من نقل شخص مستهدف دون المعرفة بوجوده. أو يمكن أن يتنقّل الشخص المستهدف بواسطة الدراجة النارية العادية ويضع على رأسه خوذة تمنع التعرّف عليه. ولا بدّ من الإشارة هنا الى تغييب العنصر النسائي في الحماية الذي قد يبعد الشبهات عن وجود شخصية مستهدفة في كثير من الحالات وخصوصاً في مجتمعنا الذكوري. والعنصر الآخر الذي يُفترض توظيفه هو عنصر المفاجأة وعدم التقيّد بالمواعيد المعلنة مهما بلغت أهميتها.
لكن التمويه الأساسي الذي يُفترض اعتماده في الحماية هو تغيير الشكل عبر التنكّر. وهو أسلوب كان يعتمده ياسر عرفات وغيره من الذين كانوا عرضة للاستهداف من أجهزة استخبارات عربية وعالمية. فيمكن أن يتنكّر الشخص المستهدَف بلباس «التشادور» مثلاً أو بلباس عامل تنظيفات أو حتى بلباس شرطي. قد يرى البعض أن ذلك الاقتراح مزحة أو استهزاء ولكن بعد الفشل في حماية عشرات الشهداء من مواطنين وسياسيين وإعلاميين، يُفترض ألّا يستخفّ الضبّاط الأمنيون والعسكريون بأي اقتراح وخصوصاً اقتراحات مدروسة أثبتت نجاحها في الحماية سابقاً.
تمويه الاتصالات
في ما يتعلّق بأجهزة الاتصالات وباللغة المستخدمة بين عناصر الحماية، التنبّه للتعبيرات المستخدمة أهمّ من اعتماد تكنولوجيا متطوّرة. فمهما بلغ تطوّر أجهزة الاتصال لا بدّ من ابتكار طريقة للتنصّت والمراقبة، وبالتالي استخدام الشيفرة المتفق عليها سلفاً التي يجب أن تتغيّر دورياً، أمر ضروري. وينبغي أن تحصر الاتصالات في عدد محدود جداً من العناصر الأمنية، بينما يكون العناصر الآخرون على استعداد دائم للتحرّك متى طلب منهم ذلك.
الرقابة
ويُفترض أن يتمّ التدقيق المستمرّ في عمل طاقم الحماية المعلن وغير المعلن. وينبغي التنصّت ومراقبة كلّ عنصر من العناصر الأمنية في أوقات مختلفة خلال عملهم وأيضاً خلال أوقات فراغهم. ففي عالم الجريمة والحماية، لا وجود للثقة بالأشخاص بل بالأفعال التي تدلّ على مدى التزام الأشخاص بالتعليمات والمعايير في أصعب الظروف وفي أبسطها أيضاً. وقد يكون مفيداً القيام بمناورات سرّية في شأن إجراءات التمويه والتخفّي للتأكد من فاعليتها. وهذه المناورات يراقبها متخصصون تابعون لفريق الحماية ويصدرون بعدها تقريراً مفصّلاً عن نقاط الضعف وكيفية معالجتها.
مراقبة المراقب
ويُفترض أن يقوم عناصر مموهون بمراقبة مكان إقامة الشخص المستهدف والمنطقة المحيطة به وخصوصاً الأشخاص الذين يتنقلون ويقيمون في هذه المنطقة. ومن خلال المراقبة توضع لوائح بأشخاص يُشتبه في قيامهم بمراقبة المستهدَف لأهداف جرمية. وبدل توقيف هؤلاء تتمّ مراقبتهم باستمرار وإعطاؤهم معلومات مغلوطة للتمكن من كشف المخطط الجرمي إذا وُجد.
من أهمّ مميزات عناصر الحماية التفكير كما يفكر القتَلَة وعدم استبعاد أي شخص على صلة قريبة أو بعيدة بالشخص المحمي، من الاشتباه. ولعلّ الإخفاق المهني الأوّل هو التركيز على الاشتباه في جهة دون غيرها، ليس فقط عبر تسميتها في وسائل الإعلام وخلال الخطابات السياسية، بل في أذهان المكلّفين الحماية وقناعاتهم الثابتة.