نقولا ناصيف
أُوصِدت تماماً أبواب الحوار الداخلي بين طرفي النزاع، قوى 14 آذار والمعارضة، بعد فشل الوساطة العربية، وبات احتمال تأليف حكومة ثانية أكثر ترجيحاً من أي وقت مضى في أوساط واسعة الاطّلاع في المعارضة. وتُدرج هذه المعطيات المحيطة بتأليف حكومة ثانية، موازية لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، في الآتي:
1 ـــــ يكمن التباين في مواقف أقطاب المعارضة من تأليف حكومة ثانية في توقيت إعلانها، لا في مبدأ اتخاذ قرار بها. ويتجاذب التباين رأي يقول به الرئيس إميل لحود هو استعجاله تحديد موعد لإعلانها بدءاً من النصف الثاني من تموز، حاضّاً أفرقاء المعارضة على البحث الجدي في هذا الخيار كي لا يُهدَر الوقت السياسي المناسب للإفادة من هذه الخطوة. ورأي آخر يقول به الرئيس نبيه بري هو الاستمهال في إعلانها بحيث يكون ـــــ إذا كان لا بد من حكومة ثانية في نهاية المطاف ـــــ بمثابة ردّ فعل على «معصية كبرى» ترتكبها قوى 14 آذار، هي انتخابها بالأكثرية المطلقة التي تكوّنها رئيساً للجمهورية من صفوفها، بمعزل عن أي اتفاق مع الطرف الآخر وتجاهله كلياً. حينذاك يكون الأمر قد أُسِقط من يد رئيس الجمهورية عبر إقدام الفريق الآخر على انتهاك الدستور والنصاب الموصوف الذي يلحظه لانتخاب الرئيس الجديد. وتكون الحكومة الثانية رداً على انتخاب غير دستوري.
وقد لا تكون الحكومة الثانية الردّ الوحيد الذي تُقدِم عليه المعارضة، تقول أوساطها الواسعة الاطّلاع، للحؤول دون حصول قوى 14 آذار على كل مصادر السلطة والحكم: رئيس الجمهورية بعد الغالبية النيابية التي تتحكّم بدورها في تسمية الرئيس المكلف للحكومة وفي إمرار الحكومة في البرلمان ومنحها الثقة أو حجبها عنها.
2 ـــــ مع أن لحود لم يقل علناً وصراحة حتى اليوم إنه سيؤلف حكومة ثانية، ولم يُوحِ بعد بخياره الحقيقي وطبيعته عندما يعتزم تسليم الحكم، فإن الحكومة الثانية هي الخيار الذي لا مناص منه، عبر المعادلة التي انتظم من خلالها موقفه، وهو أنه سيبذل قصاراه لتأليف حكومة وحدة وطنية حتى اللحظة الأخيرة من ولايته، بيد أنه لن يسلّم، في أي حال، الحكم إلى حكومة السنيورة إذ يرى أنّها غير موجودة عند انتهاء الولاية، متمسكاً بممارسته صلاحياته الدستورية كاملة والواجب الذي تمليه عليه هذه الصلاحيات. بدوره، بري لم يقل مرةً إنه يؤيد حكومة ثانية ولا دافع عن هذا الخيار، ولم يرَ فيه خطوة ملائمة لمعالجة المشكلة النازفة بين الغالبية والمعارضة. إلا أن مَن أصغى إلى رئيس المجلس مذ تصاعد الكلام عن تأليف حكومة ثانية لمس فحوى موقفه الذي أبلغه إلى الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، وهو تحذيره من تأليفها. مغزى كلام بري كإشارات كلام لحود. كلاهما لا يجهر بتأييد تأليف حكومة جديدة، وكذلك لا يقرّ بتسليم السلطة إلى قوى 14 آذار. لكن اللافت في ما يفصح عنه رئيس المجلس، وقد سمعه موسى منه، هو: ألا اجهدوا دون تأليف حكومة ثانية. وفي ذلك إشارة صريحة إلى ضرورة الاتفاق على تسوية سياسية توقف انهيار الشرعيات والمؤسسات الدستورية.
3 ـــــ يكاد أقطاب في المعارضة يجزمون بعدم إجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية وفق الآلية التي نصت عليها المادة 49 من الدستور. فالجلسة الأولى للانتخاب التي دعا رئيس المجلس إليها في اليوم التالي لبدء المهلة الدستورية، 25 أيلول، لن يكتمل نصابها ولن تلتئم، ويُصار بعدذاك إلى تحديد موعد جلسة أخرى ستلقى المصير نفسه خارج توافق داخلي. في المقابل لن يتسنّى لقوى 14 آذار، منفردةً، انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل 14 تشرين الثاني المقبل. الأمر الذي يضع الاستحقاق في أزمة دستورية وسياسية خانقة. ولا يحجب هذا الواقع حقيقة مفادها أن إصرار قوى 14 آذار على إجراء انتخابات نيابية فرعية في 5 آب المقبل في بيروت والمتن من دون مرسوم يمهره رئيس الجمهورية بتوقيعه، سيمثل سابقة للذهاب إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية في اليوم الأخير من المهلة الدستورية دون رئيس المجلس. وتتسلّح قوى 14 آذار بحجة أن قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» تجعلها لا تنتهك الدستور بل تتجاوزه كي تحمي وجودها وتجبه التحديات القاسية: اعتداء النظام السوري عليها، حرب التنظيمات الإرهابية على الاستقرار والأمن والقوة الدولية في الجنوب، انقسام داخلي جعل الفريق المناوئ للغالبية في موقع الخصم...
بذلك تساوي الغالبية بين تجاهلها صلاحيات رئيس الجمهورية ولامبالاتها بدور رئيس المجلس وموقعه. الأمر الذي يدفع بالجميع، دون استثناء، إلى مغامرة غير محسوبة العواقب.
4 ـــــ لا يرمي تأليف حكومة ثانية إلا إلى التفاوض على سقوط الحكومتين معاً، والعودة إلى الحوار الداخلي بحثاً عن تسوية تحت وطأة تفكك مؤسسات الدولة وإداراتها وأجهزتها. وقد يكون ذلك هو المقصود بما يورده أقطاب في المعارضة من أن الحكومة الثانية غير مهتمة بالحصول على دعم دولي أو اعتراف بها، وليست مهمتها ممارسة الحكم واعتماد السفراء وعقد الاتفاقات والعقود وإدارة الدبلوماسية وإصدار تعيينات وتشكيلات وإعادة تنظيم الإدارة، بل الإشراف على انتقال دستوري من حقبة إلى أخرى مع نهاية ولاية لحود الذي يقتضي أن يغادر المنصب ويسلّم الحكم إلى سلطة شرعية تخلفه.
مع ذلك يواجه تأليف حكومة ثانية عقبات ثلاثاً:
أولاها، الحصول على موافقة نهائية لرئيس المجلس على تأليف حكومة ثانية، الأمر الذي دونه (حتى الساعة على الأقل) تحفظات،
ثانيها، وجود زعيم سنّي جدّي لتولي رئاسة الحكومة الثانية يتمتع بصفة تمثيلية غير مطعون فيها،
ثالثها، ممارسة الحكومة الجديدة، ما دامت تعرف سلفاً أنها ستفتقر إلى الاعتراف العربي والدولي، سلطات حقيقية. فلا تكون حكومة على ورق، ولا وزراء من ورق. وهي تحتاج تالياً إلى أن تضع يدها بلا تردّد على وزارات وإدارات تقع في نطاق سيطرتها ونفوذها السياسي. وهذا ما يصحّ على المقار والمؤسسات والإدارات الرسمية الواقعة في مناطق البقاع والجنوب والضاحية الجنوبية وزغرتا والشمال والجبل المتأثر بالمعارضة.
وهو الامتحان الفعلي لحكومة كهذه يشوبها طعن دستوري، إلا أنها تريد أن تستنفد دورها كاملاً كي تدفع الطرف الآخر إلى المواجهة الحادة والمكلفة ـــــ إذا لزم الأمر ـــــ ومن ثم الجلوس إلى طاولة تسوية داخلية متكافئة.