إبراهيم الأمين
فتح طلب فريق 14 آذار تنحية القاضي الياس عيد عن ملف التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الباب من جديد للإضاءة على ما يعرف بأنه تدخل مستمر من جانب هذا الفريق في التحقيق نفسه، وفي إدارة العديد من عناصره، منذ تولي ديتليف ميليس ورجله القوي غيرهارد ليمان ملف التحقيق حتى اليوم، وخصوصاً أن «العقل الثأري» المتحكم بعقول اركان هذا الفريق لا يهتم بشيء سوى الانتقام، وهو فريق اظهر خلال اقل من عامين فشلاً مخيفاً في ادارته ملفات السياسة العامة والخاصة لقسم من اللبنانيين، وادارة الدولة. وهو فريق مستعد بما تظهره الوقائع لأن يكون عبداً كاملاً للارادة الخارجية.
قبل اكثر من سنة، وعندما تسلم سيرج براميرتس ملف التحقيق الدولي، ظهرت الاشارات الكافية إلى عمليات التزوير في الافادات والمعلومات والشهود. وهي عمليات تولاها فريق الاكثرية الامني والسياسي والاعلامي، وتحديداً فريق مشترك من تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي. وكان هدفها تكثيف الضغط المعلوماتي الهادف الى ربط فريق سياسي رسمي وحزبي بجريمة الاغتيال، تماماً كما حصل يوم قرر فذ من أفذاذ ثورة الارز البائسة رفع صور من افترضهم المجرمين، ثم خرج الاشخاص انفسهم الذين قرروا رفع صور هؤلاء يتحدثون عن «الحكم العفوي للجمهور على المرتكبين الحقيقيين» في لعبة تذكر بولدنات المخابرات الاميركية التي عادت وانتشرت الآن بقوة في أوساط نواب فريق 14 آذار وسياسييه وإعلامييه.
إلا أن كل ذلك وفر ما سمي يومها عملية الضغط المكثفة التي امنت اعتقال من هو الآن في السجن، وأمنت تغطية إعلامية وسياسية من النوع الذي منع طرح الاسئلة عن الذي حصل، وكادت وسائل الاعلام الصفراء التابعة لهذا الفريق تصف من يسأل او يشكك في قرارات القضاء بأنه شريك في الجريمة، ووصلت الضغوط حدود منع الكلام عن هذا الملف، لكن تطورات متسارعة وضعت الامر في سياق آخر، ظهرت فضائح الشهود المفبركين أشخاصاً وأقوالاً على أيدي قادة 14 آذار، وظهرت المعلومات المزورة التي دفعت بأحد أعضاء لجنة التحقيق الدولية الى القول: «لقد تم تأخيرنا اسابيع طويلة بسبب افادات وشهود تبيّن لنا أنهم أرسلوا من طرف واحد وقالوا لنا كلاماً واحداً وكله في اطار التهويل». ولما أتيح لفريق من المحللين في لجنة التحقيق الدولية «تنقيح المعلومات» أهملت آلاف الصفحات التي قيلت على لسان شهود الزور ونشرت في وسائل اعلام الفريق الحاكم. وكل ذلك لم يغير في أساس التحقيق الذي يقول بأن هناك مصلحة سياسية في قتل الحريري وهناك أدوات نفذت الهجوم، وان التقاطع بين الامرين يجب ان يظهر من خلال تحديد آلية التنفيذ بما يتيح التوصل الى عناوين الاهداف الفعلية للتحقيق الدولي.
وفي هذا السياق بدأت المناقشات حول دور الضباط الاربعة وبقية الموقوفين، ولم يمض وقت طويل حتى انتهى فريق سيرج براميرتس إلى إبلاغ من يهمه الامر في بيروت وفي الامم المتحدة بأن هناك تمييزاً منطقياً بين ما لدى اللجنة من ادلة ومعلومات وبين الخطوات الواجب على القضاء اتخاذها. وقال صراحة في أربعة اجتماعات حضر الفريق القضائي ثلاثة منها، إن استراتيجيته في الملف لا تفرض خطوات وقائية او تكتيكاً كالذي اتبعه سلفه. وهذا لا يعني أن بمقدوره الآن منح البراءة لهذا او ادانة ذاك، لكن ما لديه من معطيات وما يمكنه القيام به الآن هو بحدود ما ابلغه الى فريق التحقيق اللبناني الذي يقدر على بت أمور الموقوفين على وجه التحديد.
وبناءً على هذه القاعدة وجد فريق التحقيق اللبناني، ولا سيما القاضيان سعيد ميرزا والياس عيد أنهما أمام مسؤولية مباشرة عن ملف التوقيف، وأن الامر لم يعد رهن التوصية التي اصدرها سابقاً ميليس، وبالتالي فإن لعبة التذرع بالتوصية كما يحلو لوزير العدل شارل رزق القول، لم تعد نافعة الآن، وعلى الفريق المعني اتخاذ قرار وتبريره، وعندما أحال القاضي عيد طلب تخلية السبيل المقدم من وكلاء الدفاع عن الضباط الموقوفين، قال القاضي ميرزا رأيه وهو سلبي، معتبراً أن ظروف الملف والتحقيق تفرض إبقاء هؤلاء قيد التوقيف، وأن الامر لا يعني ادانة لأحد منهم، بل هو رأي يستند الى آلية التحقيق التي يعتمدها ميرزا.
من جانبه كان القاضي عيد أمام مسؤولية من نوع مختلف. فهو كان يبرر أمام نفسه وأمام الآخرين استمرار التوقيف بأن الامور ترتبط اكثر من اي شيء بما هو لدى لجنة التحقيق الدولية من معطيات، وأن التوقيف تم بناءً على معطيات متقاطعة لدى لجنة التحقيق ولدى القضاء اللبناني، وأنه لا مجال لفريق التحقيق اللبناني لأن يبادر الى اي خطوة دون العودة الى ما هو لدى لجنة التحقيق. وقال عيد مراراً لموكلي الموقوفين إن هناك تحقيقات مستمرة وإنه يتسلم يومياً الكثير من الاوراق والافادات وإنه يريد انتظار هذا التقرير او ذاك للقاضي الدولي براميرتس.
وبمرور الوقت، كانت الفجوة تضيق، وكانت المعلومات الواردة من لجنة التحقيق تتقلص، الى حين احتدم النقاش مع وكلاء الدفاع حول طريقة ادارة المرحلة المقبلة من التحقيق. وتبيّن أن اجتماعات عدة ومذكرات كثيرة جرى تبادلها بين الوكلاء والقاضي براميرتس تتركز على مسؤوليته عن استمرار التوقيف من دون تبرير، ما دفع به، بعد مراجعات جاء بعضها من مرجعيات قانونية دولية، الى إعداد ورقة عمل حملها معه الى الاجتماع الحاسم الذي عقد في الثامن من أيار الماضي مع فريق التحقيق اللبناني، وخلاله أجاب براميرتس تفصيلاً عن أسئلة من المحقق عيد عن اوضاع الموقوفين الاربعة من جانب لجنة التحقيق، وقال كلاماً جازماً فيه أن كل ما لدى لجنة التحقيق قد تم تسليمه الى الفريق اللبناني.
بعد هذا الاجتماع كان القاضي عيد امام الخطوة الاخيرة، وهو إن قرر إبقاء التوقيف فعليه تبرير الخطوة، لأن الكلام عن خطوة احترازية تارة بحجة حفظ سلامة هؤلاء وتارة بحجة سرية التحقيق، لم يعد كافياً لأن مدة التوقيف لامست السنتين وهي مدة طويلة في عرف التوقيف الاحتياطي. ولما اقترب من القرار، حصل ما حصل: نقاش بينه وبين الرئيس ميرزا لم تعرف تفاصيله. إرهاق ودخول الى المستشفى وراحة أجلت صدور القرار. هجمة سياسية بعنوان قانوني من جانب فريق 14 آذار عليه وصولاً الى طلب التنحية الذي له هدف واحد بعلم جميع من له صلة بالملف وهو: منع إطلاق سراح الضباط الأربعة مجتمعين او منفردين.
وإذا كان في لبنان من هو واهم باحترام أمراء الحرب والمال لحقوق الانسان أو رغبتهم في وجود سلطة قضائية مستقلة، فهذه مشكلته، لكن المسؤولية محصورة الآن بيد سعيد ميرزا والياس عيد... فلننتظر!