جان عزيز
في صلب الأزمة الراهنة، ولو بعيداً عن آنياتها والزواريب، يصارح أحد أركان «فريق 14 آذار»، بأسى وبعض ثورة، حول السؤال: أين المسيحيون من مركز النظام والقرار في لبنان اليوم؟
الركن نفسه قارئ تاريخي لتاريخية الكيان منذ قيامه، ومنذ كان دور المسيحيين فيه عموماً، والموارنة خصوصاً. وهو يعرف في المحصّلة والاختصار أن هؤلاء لم يعودوا يشبهون المسيحيين والموارنة الذين قام لبنان «بسببهم، لا من أجلهم»
، وفق المقولة المخفّفة لآخر ديناصورات المارونية السياسية. لم يعودوا تلك الجماعة المتفجّرة ديموغرافياً واقتصادياً، كما كانت مطلع القرن السابع عشر، ما أوجد نواة الكيان الأولى مع الإمارة. ولم يعودوا رواد العلاقة مع الغرب، بما راح يبلور النواة أطراً تدريجية خلال القرن التاسع عشر. حتى إنهم لم يعودوا أصحاب مشروع يرصد فرصة تجسيده، كما فعلوا مطلع القرن العشرين. لكنهم رغم «خسارتهم» تلك «الكينونات» كلها، ظلوا طيلة ستين عاماً من عمر الاستقلال، عاملاً تكوينياً للبنان الدولة والنظام والقرار.
بعد نهاية الحرب وقيام نظام الوصاية السورية، كُتب الكثير عن الاستهداف البنيوي للوجود المسيحي. تقاطعت ثلاثية المال والديموغرافيا والجزمة، فأصابت الكثير من مقوماته. والتقاطع كان لبنانياً ــ سورياً في آن، قبل أن يكتشف المتقاطعون، من بيروت إلى دمشق عبر عنجر، أن استراتيجياتهم البعيدة مختلفة. فالحكام البيروتيون يريدون من دمشق رافعة تاريخية لثأر داخلي عتيق، كما قال كمال جنبلاط لحافظ الأسد، على أن يظل إطاره تحكيمهم في كل الداخل. بينما الحكام الدمشقيون أرادوا من تركيبتهم البيروتية أن تماشيهم إلى ما بعد حدود الدولة اللبنانية، عملاً بدوافع مكوّنات العقل السياسي السوري الخمسة: في الجغرافيا والدين والقومية والمصالح الاقتصادية والموقع على خريطة الصراع الشرق أوسطي. عندئذ اكتشف الطرفان تناقضهما، فبدأ النزال المسلح، ولم ينته في 14 شباط 2005.
في هذه الأثناء كان المسيحيون في حالة نزع فعلي. حتى إن البعض تحدث صراحة عن أن نزعهم هو نتيجة منطقية لمقومات وجودهم المضمحلّة سياسياً وديموغرافياً. والبعض الآخر حاول التنظير لإنجاز الدورة التاريخية، بالكلام عن «طائف اقتصادي»، وآخرون عن «طائف تربوي ثقافي»، لاستكمال ما بدأ بالجزمة والسياسة في 13 تشرين الأول 1990.
مع ذلك كله صمدوا. ظلوا لاعباً حاضراً وأساسياً. بعد استعادة السيادة بدوا كأنهم وقعوا في فخ الوصول. كأنهم سقطوا في فشل النجاح. كل رهاناتهم على الميثاقية والشريك وعلّة الجسر والبراكسيس الحياتية الموحِّدة، وعلى «لبنانية» ما، كما سمّاها منح الصلح، وعلى المواطنة والدولة المدنية... كلها استُهلكت في أقل من سنتين، وذهبت إلى مهملات موازين الصراع الجديد، داخلياً وإقليمياً، حيث لا دور لهم ولا وزن ولا جمل طبعاً!
بعد السيادة كأنهم اقتنعوا وانسحبوا. يقول ركن 14 آذار «لم يسبق للمسيحيين في تاريخ لبنان الاستقلال، أن كانوا خارج مركز القرار والنظام كما هم اليوم». ويستدلّ على مقولته بأبسط تعبيرات «الحضور»: في الجغرافيا. «منذ الأربعينات كانت بيروت ساحة السلطة، وكان المسيحيون حاضرين فيها، أنداداً لكل الجماعات اللبنانية الأخرى. حتى إن الانتماءات المناطقية الأصلية للزعماء المسيحيين والموارنة، أدركت أهمية هذه الثابتة، الحضور في بيروت، وضرورتها. بشارة الخوري كان في قلبها مقيماً. حميد فرنجية جاء من زغرتا ليسكن على المتحف. كميل شمعون تنقّل لكن عنوانه الدائم ظل في الأشرفية. تماماً كما بيار الجميل في اليسوعية وسليمان فرنجية عند كريمته في منطقة مار الياس. وإلى جانب الجميع كان بيت إده في الصنائع، معلماً ثابتاً من معالم الحضور المسيحي في العاصمة، وفي صنع القرار والسلطة اللبنانيين».
لأول مرة منذ 1943، يلاحظ الركن الآذاري، تخلو بيروت من عنوان مسيحي، من «بيت»، من صالون للسياسة والنقاش والتداول والاعتلام. في المقابل الآخرون هنا، في قلبها، عن إدراك وسليقة ووجدان تاريخي. «وليد جنبلاط متحصّن في المختارة، لكن دارة كليمنصو مفتوحة دوماً. آل الحريري حدّث ولا حرج. نبيه بري حتى قبل عين التينة لم يكن بأبعد من بربور. حتى حسن نصر الله موجود فعلياً في جغرافية بيروت». ولا ينسى الركن نفسه أن السياسيين المعارضين من المذاهب الإسلامية الثلاثة، يقيمون أيضاً في العاصمة. هنا الحدث والمتابعة الآنيّة، والجولات المكوكية لأقلام الصحافة والسفارات وصانعي الرأي العام.
يسأل الركن الآذاري: «على مَن يعرّج أي صحافي أو كاتب مقال، صبيحة نهاره اليوم؟ في أي صالون سياسي يتداعى آخر المثقفين والمهجوسين بالشأن العام وخيره؟ لا مكان مسيحياً لهم في كل بيروت. المسيحيون، والموارنة منهم خصوصاً، صاروا أهل الضواحي، ساكني الهوامش الجغرافية، قبل السياسية. آخر مركز بيروتي لهم كَأنَهُ جبران تويني. بين الحمراء وساحة البرج. بعده خرجوا طوعاً من العاصمة. كما أُخرجوا قسراً من مركز القرار والنظام. ومع ذلك يرفعون الصوت صارخين بمطلب المشاركة، أمّا الحساب التقريشي لديهم، فكم شاويشاً بات لدينا من منّة وسام الحسن...».
يسأل الركن الآذاري عن الجغرافيا الحاضرة، بهاجس التاريخ الآتي.