نقولا ناصيف
تراجعت مواقف التهدئة بتراجع التشنج، المذهبي خصوصاً، التي رافقت في الأيام الأخيرة جريمة جدرا. وعاد طرفا النزاع إلى حساباتهما السابقة التي لم يكفّا عن مراجعتها، حتى إبان الكلام عن التهدئة. ومن غير أن يعبّر التقلّب في المواقف والمرونة الظاهرة عن تقلّب فعلي في الأدوار والمواقع، فإن كلاًّ من قوى 14 آذار والمعارضة يتطلعان إلى الاستحقاق الرئاسي، أياً يكن الخيار الذي سيرسو عليه، على أنه معركة حاسمة في رسم توازنات المرحلة المقبلة. يستند هذا التقويم في رأي جهات واسعة الاطلاع إلى معطيات أبرزها:
1 ـــــــ إمرار وقت ضائع طويل حتى بلوغ الاستحقاق في موعده الدستوري في 24 أيلول المقبل. والمقصود بذلك أن أياً من الطرفين لن يخوض جدياً في الاستحقاق قبل انقضاء شهر آب المقبل. ولن تعدو المواقف منه تالياً، وكذلك التهديدات المتبادلة بالاستئثار بإجراء انتخابات الرئاسة أو بمحاولة تعطيل اكتمال نصابها القانوني، سوى محاولات جسّ نبض لا تعبّر بالضرورة عن الموقف الحقيقي للطرفين معاً. بل يحاول كل منهما أن يبرهن للآخر، سلفاً، أنه يملك زمام مبادرة التصرّف بالاستحقاق والسيطرة على مساره، غافلاً أو متجاهلاً أو حتى مستخفاً بتأثير القوى الخارجية الأكثر فاعلية ونفوذاً في توجيهه. بل الأصح أنها ستكون صاحبة الكلمة فيه.
2 ـــ الارتباك الذي يسود ردود فعل طرفي النزاع، ويجعلهما حائرين حيال طريقة استيعاب نتائج رهانات لم تبيّن لهما حتى الآن أنهما كسباها فعلياً. فالمعارضة فقدت الجدوى التي توختها من الاعتصام المفتوح في ساحة رياض الصلح بعد انقضاء ستة أشهر عليه، وهو لم يُتح لها إسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ولا إرغام الغالبية على الأخذ بالتعديلات التي اقترحتها المعارضة على مشروع المحكمة الدولية. في المقابل ليس في وسع المعارضة إخراج الشارع من المواجهة بإنهاء الاعتصام، من دون أن يكون قد حقق حداً أدنى مما رمى إليه. بدورها قوى 14 آذار لا تبدو أحسن حالاً. وبعدما رجّح بعض أقطابها إقرار مشروع المحكمة الدولية في مجلس الأمن في الأسبوع الأول من أيار، بات آخرون يتوقعون هذا الإقرار قبل انقضاء هذا الشهر، من غير أن يكونوا متيقنين من حدوث ذلك أيضاً ضمن هذه المهلة. ومع أن مشروع المحكمة الدولية خرج ـــــــ أو أُخرِج بالقوة ـــــــ من التجاذب الداخلي، فهو أضحى أسير تجاذب دولي أكثر تعقيداً بين قوى تستعجله وأخرى تساوم عليه. ولا يُسقط ذلك واقع أن مشروع المحكمة الدولية في صلب التنازع الداخلي على توازن القوى القائم من الآن، وحتى بلوغ الاستحقاق الرئاسي. وبمقدار ما تفلح الغالبية في إنشاء المحكمة الدولية بمعزل عن استرضاء المعارضة أو التنازل لها، تضعفها وتُفقد في الوقت نفسه رئيس المجلس نبيه بري الورقة القوية التي يملكها في صلاحياته، وهي دعوة مجلس النواب إلى الانعقاد. مع أن بري يحصر تلويحه بورقة الصلاحية هذه بما يعتبره لاشرعية حكومة السنيورة.
3 ـــ إشارات تتداولها أكثر من شخصية مؤثرة في قوى 14 آذار تبعاً لمعلومات دبلوماسية مصدرها دولة كبرى تنسب إلى مسؤول رفيع فيها قوله إن ثمة عقبتين تقفان في طريق إقرار سريع لمشروع المحكمة الدولية:
أولاهما تحفّظ أعضاء دائمين في مجلس الأمن مثل روسيا (الراغبة في مقايضة يجدها الأميركيون استناداً إلى هذا المسؤول مكلفة أكثر مما يعتقدون)، وأعضاء غير دائمين مثل إيطاليا وقطر، إلى دول أخرى ليست أعضاء في مجلس الأمن لكنها ذات دور في الاتحاد الأوروبي، ومنها إسبانيا، لا تجاري العجلة وتفضّل مزيداً من التأني وترك المبادرة في يد الأفرقاء اللبنانيين أولاً وأخيراً.
ثانيتهما الكلفة المقدّرة لمشروع المحكمة الدولية والتي ستنتقل تبعتها، فور إنشاء محكمة دولية تحت أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، من لبنان بصفته الدولة المعنية إلى الأمم المتحدة التي تتحوّل إذذاك إلى مموّل وحيد لمحكمة ستصبح دولية مئة في المئة، لا محكمة ذات طابع دولي. مع أن الاتفاق المعقود مع لبنان ينيط بالأخير تغطية تكلفة السنة الأولى من عمل المحكمة ذات الطابع الدولي بما يوازي 300 مليون دولار. ويشير ذلك أيضاً إلى أن تجربة محكمة مختلطة، كحال مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي للبنان، وخلافاً للمحكمة الدولية المنشأة ليوغوسلافيا ورواندا، تجعل الدولة المعنية والأمم المتحدة تتقاسمان المبلغ تفادياً لجعل كل الإنفاق على هذه الدولة، فتحيل الأمر أداة ضغط.
والأحرى أن مشكلة التمويل تصبح أكثر تعقيداً لكون إنشاء المحكمة الدولية سيؤدي إلى ضم لجنة التحقيق الدولية إلى نطاقها، مع تحوّل رئيس اللجنة مدعياً عاماً. وهكذا تتوازن أعمال لجنة التحقيق والمحكمة الدولية. علماً أن لبنان لا يتحمّل من الأعباء المالية للجنة التحقيق الدولية سوى استئجار مقر اللجنة الذي يقيم فيه فريقها.
وتمثل هذه العقبة ما كانت مثلته في وقت سابق جهود بذلتها قوى 14 آذار كي تحرّر مشروع المحكمة من المرور بمجلس النواب وتفادي حاجتها إلى توقيع رئيس الجمهورية وإبرام القانون، وذلك بالتعويل على المادة 52 نفسها التي تحتم الإبرام بعد الإقرار في مجلس النواب. والمقصود بذلك جعل الاتفاق مع الأمم المتحدة سنة فسنة قابلاً للتجديد (بما في ذلك التجديد الدوري لانتداب القضاة اللبنانيين)، وعدم تحميل الحكومة اللبنانية الوزر المالي، فلا يحتاج مشروع المحكمة عندئذ إلى إقرار في مجلس النواب. لكن هذه المحاولة أخفقت للسبب نفسه، حتى الآن على الأقل، الذي هو إيجاد الجهة القادرة على تمويل نفقات محكمة يفترض أنها ستقع تحت الفصل السابع. وتعزّز المعلومات الدبلوماسية هذا الاعتقاد بأن الأمم المتحدة ترزح تحت دين بلغ حتى الآن مليار دولار هو مستحقات دول أعضاء فيها لم تسدّدها. بالإضافة إلى أن التعويل على صندوق خاص لتمويل «المحكمة الدولية للبنان»، على غرار الصندوق الخاص لتلك التي أنشئت لسيراليون، لم يعكس تجربة تُحتذى. وبعدما واظبت دول على المساهمة في الصندوق الخاص لهذه المحكمة توقفت عن التسديد، فعرقلت استمرار عملها.
وعلى وفرة المواقف التي عبّر عنها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون قبل زيارته دمشق في 24 نيسان الفائت وبعدها، وما أخطر به مساعده للشؤون القانونية نيكولا ميشال أمام مجلس الأمن عن العقبات التي يواجهها داخل لبنان إقرار المحكمة الدولية، من غير أن يبسّط من جهة أخرى إقرارها في المنظمة الدولية بالسهولة التي يأملها البعض، تضع هذه المواقف المشروع في مرحلة مربكة من غير أن تسقط حكماً إقراره في نهاية المطاف في مجلس الأمن.
وقد يكون هو السبب في استمرار اعتقاد المجتمع الدولي بأن الأبواب لم توصد تماماً بعد في وجه المحكمة الدولية. ويحمل هذا الاعتقاد المعلومات الدبلوماسية على ربط واقع ما يعانيه حاضراً مشروع المحكمة الدولية بما خبرته الأمم المتحدة مع المحكمة الدولية في كمبوديا التي سرعان ما تفجّرت في وجهها نزاعات محلية بسبب صراعات سياسية شلّت أعمالها سنوات. ويمثّل ذلك دافعاً رئيسياً للتشديد على الحاجة إلى إخراج مشروع المحكمة الدولية من لبنان بتوافق داخلي يمهّد له حوار مستحيل بين الأفرقاء المتنازعين.