strong>يحاول السجناء، عادة، فعل ما في وسعهم للخروج إلى الحرية. لكن، أن يقوم شخص بكل ما في وسعه للدخول إلى السجن، فتلك مفارقة وقد تكون سابقة. هذه هي حالة ابراهيم حَمََادي، الذي كان منسياً في السجن لأكثر من 4 سنوات، وأفرجعنه قبل أقل من شهرين على دخوله السجن مجدداً، حيث ينهي اليوم عقوبته الثانية، قبل الخروج إلى المجهول والتشرد

لم يستطع ابراهيم حمادي أن يبقى في «الحرية» اكثر من شهرين. فيوم 15/4/2007، أوقفته دورية من فوج الطوارئ في قوى الامن الداخلي «لإقدامه على التسول في منطقة الأشرفية، شارع مونو»، وصدر بحقه حكم قضائي بالسجن. وهذا المكان هو ذاته الذي أوقفته فيه دورية من الفوج نفسه، بتاريخ 7/7/2002 «لإقدامه على السكر الظاهر»، وهو ما أدى إلى الحكم عليه بالسجن شهراً واحداً، لأنه كان يسكر في شارع مونو. نسيته السلطات بعد هذا الشهر، ليقضي في السجن فترة تزيد على أربع سنوات و6 أشهر. ويوم 21 شباط 2007، وبعدما نشرت «الأخبار» قصته عقب تحريك جمعية «عدل ورحمة» لقضيته، فتح القضاء تحقيقاً فيها، وأخرج ابراهيم من النسيان خلف أسوار رومية يوم 22 شباط 2007. وخلال التحقيق في بقاء شخص في السجن مدة تفوق محكوميته عشرات الأضعاف، استمع القاضي مختار سعد لافادة ابراهيم حمادي الذي أخبره انه كان يعيش، قبل دخول السجن، في بورة بمدينة جونية، وأنه سيعود إلى حياته السابقة عند إطلاقه. عندها، استدعى القاضي سعد شقيقة السجين التي تسكن في صيدا، وأخذ منها تعهداً بإيواء شقيقها في منزلها، ثم أمر بإخلاء سبيل حمادي الذي توجه مع شقيقته إلى منزلها.
وخلال فترة الحرية الفاصلة بين «السّجنين»، لم يستقر حمادي في منزل شقيقته بصيدا، بل غادره ليقطن كوخاً من التنك في شحيم بإقليم الخروب. وبعد القبض عليه مجدداً في شارع مونو قبل عشرين يوماً، خضع للتحقيق أمام فصيلة الأشرفية، حيث ذكر أنه «فقير ومعدم» وأنه لا أقارب له في لبنان، وجميع أفراد عائلته هم في ألمانيا. كذلك أفاد حمادي أنه بلا منزل وبلا عمل، ويعاني مرضاً، ويعيش على «ما يمنّ به عليه المحسنون». وأنه يتسول منذ عشر سنين سبع منها في الأشرفية.
بعد ختم التحقيق، ادعى النائب العام الاستئنافي في بيروت القاضي جوزف معماري على ابراهيم حمادي امام القاضي المنفرد الجزائي في بيروت، طالباً إدانته وفقاً للمادة 610 عقوبات. وبتاريخ 25/4/2007، أصدر الحاكم المنفرد الجزائي في بيروت القاضي هاني حلمي الحجار حكماً قضى بسجن حمادي مدة شهر، وإنزال العقوبة تخفيفاً، والاكتفاء بمدة توقيفه وبغرامة مالية قدرها مئة ألف ليرة لبنانية، على أن يحبس يوماً واحداً عن كل عشرة آلاف ليرة لا يدفعها. وبما أن الجرم الذي حوكم حمادي على أساسه هو التسوّل، فإنه لا يملك مالاً يدفعه للغرامة، بالتالي، ستنتهي مدة محكوميته اليوم. لكن، لا مكان له يعود إليه.
وأمام أحد المراجع القضائية ذكر ابراهيم أنه في حال خروجه من السجن، فإنه سيفعل ما في وسعه للعودة إليه. ونقل المرجع القضائي الرفيع عنه سؤاله: «ما هي الجريمة التي عليّ ارتكابها لأبقى في السجن؟». وذكر مصدر قضائي آخر لـ«الأخبار» أنه «رغم رغبته، فإن إدارة السجن مضطرة لإطلاق ابراهيم عند انتهاء محكوميته». اما عن حديث ابراهيم بأنه سيرتكب جريمة للبقاء في السجن، فذكر المصدر القضائي أن «القانون لا يعاقب على النية، وما قاله حمادي لا يعدّ محاولة لارتكاب جريمة، لأن المحاولة التي يعاقب عليها القانون تكون في إطار البدء بالأعمال التحضيرية للجريمة». وذكر المصدر أن القاضي لا يستطيع الحكم «باحتجاز حمادي في مأوى أو تدبير احترازي لأن الإجراء يكون في سياق دعوى شخصية». ولفت إلى «أنه لا يوجد أي اجراء قانوني يلزم شقيقة ابراهيم تأمين مسكن له».
المسؤولية عن بقاء ابراهيم منسياً في رومية مدة تزيد على أربع سنوات ونصف السنة زيادة على فترة محكوميته، قبل إخراجه في شباط الماضي، تقع في جزء منها على خلاصة الحكم بحقه التي لم تصل إلى قلم العدلية في روميه. لكن ابراهيم لم يطالب بالخروج حتى بعد انتهاء المدّة القانونية لسجنه، كما يقول أحد المتابعين للملف. فهو «كان مستقراً في رومية، حيث يؤمَّن له الطعام والمكان الذي ينام فيه، ولم تكن لديه رغبة في العودة إلى حياة التشرد التي كان يعيشها قبل توقيفه».
عدل... ورحمة
اليوم تنتهي فترة المحكومية الجديدة، ولكن يبقى ابراهيم حمادي بلا مأوى. ومن حسن حظه أن جمعية «عدل ورحمة»، التي تعنى بأمور نزلاء سجن رومية الانسانية، والتي كانت أول من تحدث عن قضيته خلال فترة نسيانه، قررت هذه المرة أيضاً أخذ الأمور على عاتقها. وبحسب ما قاله أحد العاملين في الجمعية لـ «الأخبار»، فإنها «ستقوم بدراسة ملف حمادي من النواحي القضائية والعائلية والانسانية، تمهيداً لتأمين مأوى له أو عمل لدى خروجه من رومية خلال الأيام المقبلة».
معضلة قانونية
لكنّ الحكم مجدداً على ابراهيم حمادي، وقضاءه فترة حريته متشرداً، يطرحان تساؤلات عن مدى توافق قانون العقوبات اللبناني مع المعايير الدولية لحقوق الانسان، وكذلك عن الامكانات والقدرات التي تتمتع بها السلطات القضائية، والسلطات الأمنية التي تنفذ الأحكام القضائية، للالتزام بمضمون قانون العقوبات كما هو. فالقانون المذكور ينص في المادة 70 منه على أن من بين التدابير الاحترازية المانعة للحرية «الحجز في دار للتشغيل». كما أن المادة 610، التي حوكم ابراهيم حمادي على أساسها (المتعلقة بالتسول)، تنص على وضع المدان بالتسول في دار للتشغيل «وجوباً في حال التكرار» (اي تكرار التسول).
وللإجابة عن هذه التساؤلات، اعتبر المحامي نزار صاغية أن قانون العقوبات اللبناني، يعاقب المتسول، عوض أن ينص على وجوب ايجاد عمل له يقيه العوز. اما في الدول الأوروبية، فتعتبر معاقبة التسول مخالفة لحقوق الانسان». كما أن القانون اللبناني، بمعاقبته المتسولين، «يعاقب على الفقر، او على إظهار الفقر، في مجتمع ليس العمل فيه متاحاً للجميع، ولا يوجد فيه أي ضمان اجتماعي للعاطلين من العمل». وبما أن قانون العقوبات ينص على وجود دار للتشغيل، وبما أن هذه الدار غير مؤمنة، ولو كانت موجودة لشكلت نوعاً من انواع التضامن الاجتماعي مع المعوز «يكون القاضي مضطراً لتنفيذ العقوبة التي ينص عليها القانون».
(الأخبار)