جان عزيز
هاجسان يسكنان سيد بكركي، هكذا يجزم أحد ثقاة الصرح. الهاجس الأول يمثله السؤال عن كيفية المحافظة على الحضور المسيحي في لبنان، وجوداً ورسالة. والثاني يختصره القلق على الميثاق الوطني، توافقاً وشراكة، وفق المعادلة التي أطلقتها بكركي في مجمعها الأخير: «العيش مختلفين متساوين».
ويسهب العارف بأحوال البطريركية وأفكارها، قائلاً إن ثمة ضمانتين إضافيتين تحصّنان هاجسي البطريرك. الأولى أن التلازم في فكره كامل مطبق بين المسيحيين والميثاق. والثانية أن هاجسه المسيحي خاضع لتحكّم صاحب الغبطة فيه، لا الهاجس متحكمّ في سيد الصرح.
انطلاقاً من هذا التفكير الأعمق، يؤكد العارف نفسه أن بكركي تضع لنفسها اليوم أولويتين اثنتين: قانون جديد للانتخابات النيابية، واستحقاق رئيس جديد للجمهورية في موعده الدستوري. بعدما باتت البطريركية المارونية تدرك فعلياً أن جميع العناوين الأخرى، من محكمة وحكومة، باتت وراء الجميع، إمّا لاستحالة في المواقف، أو لاستحالة في الآليات والتطبيق والوقت. علماً أن ثوابت الكنيسة المارونية المعلنة في 6 كانون الأول الماضي، كانت قد تضمنت جدولة زمنية مغايرة، تبدأ بحكومة وحدة وطنية، لكن الواقع بات مختلفاً، والضرورة تفرض التعامل معه كما هو.
هكذا لا يخلو لقاء في صالون الصرح من كلام مفصّل على قانون الانتخابات. وتسهب أوساط بكركي في عرض تقادم الإشكالية، منذ الطائف قبل 18 عاماً، حتى البيان الشهير للاجتماع الاستثنائي للمطارنة الموارنة، في 12 أيار 2005، عشية «التآمر» على ثابتة البطريرك، أو غداة انتهائه فعلياً وصدور النتائج التي «ينعم» بها الجميع اليوم. باختصار «النسبية» معقدة، تقول أوساط الصرح. «حتى نحن لم نفهمها، فكيف يفهمها الناخب والمواطن». لكن خلف سبب التعقيد المعلن، ثمة من يهمس أن بكركي تعاني فهمها الدقيق لنظام النسبية، أكثر من عدم الفهم. وفي فهمها هذا أن قانوناً قائماً على هذا المبدأ الاقتراعي، يعني الاعتراف بالمسيحيين أقلية في نظام المناصفة، ويعني إقراراً بتظهير هذا الواقع في الاقتراع والنتائج.
بينما بكركي لا تزال عند مقولتها قبل عامين: «لقد أعطانا الدستور 64 نائباً، ونحن نريد أن ننتخب 64 نائباً».
هل تكون الدائرة الفردية هي الملاذ؟ كانت الفكرة كذلك قبل أشهر. خلالها تتالت الإيضاحات: عقبة المال وتسهيل مهمة الإقطاعيين الصغار، واستهداف المذاهب الصغيرة داخل الجماعة المسيحية لمصلحة الموارنة... كل ذلك أسقط «الفردية»، فاستقر الرأي على القضاء.
لكن الموضوع الأهم المتداول بسرية أكبر في صالون الصرح ومكاتبه المحاذية المقفلة، يظل الاستحقاق الرئاسي. حين يطرح يلبث سيد بكركي منجذباً، مستمعاً بكلية اهتمامه.
وفي المسألة شقان اليوم: النصاب للاستحقاق، والشخص المستحق.
في النصاب جزمت بكركي بضرورة الثلثين، رغم كل نصائحها وتوجيهاتها ورسائلها وتحذيراتها المرافقة. غياب الثلثين يعني حتماً رئيساً غير توافقي. «فيما البلاد لم تحتمل حكومة غير توافقية لستة أشهر، فكيف لها أن تحتمل رئيساً غير توافقي لستة أعوام». ويبدو البطريرك منصتاً حتى التبنيّ الكامل، لأحاديث الأسباب الموجبة والسوابق: في عام 1976، كان الياس سركيس مرشح الأكثرية. فوقف كمال جنبلاط وخلفه ياسر عرفات مع مرشح الأقلية، ريمون إده. تعرض المجلس النيابي للقصف أثناء الجلسة. انتظر كامل الأسعد طويلاً، قبل أن يتوجه ميشال المر الى كميل شمعون، أقنعه بالمشاركة، تأمّن الثلثان ومُرِّر القطوع.
في عام 1982 تكرّر المشهد. اتهم بشير الجميل بمحاولة اغتيال حسن الرفاعي، على خلفية خفض نصاب الثلثين لا غير. جاء من أعدائه من يهمس في أذن كامل الأسعد: اذا لم تعد عن اجتهاد احتساب الثلثين على أساس النواب الأحياء، فسيموت ثلثنا. وكان أعداء الجميل أنفسهم يعتقدون، أنه يمكنهم اتهامه بعدم احترام روح نائب، لكن لا يمكنهم اتهامه بعدم احترام روح الدستور، عبر التمسك بنصاب الثلثين، مهما ذهبوا في المزاعم والدعاية.
الثلثان إذن لخريف 2007، تجزم بكركي. والرئيس من يؤمنهما. من يكون؟ تقول أوساط الصرح إن «عدم الودّ» حيال الكثير من الأسماء، بات شبه معلن في أحاديث الصالون الكبير. ركن أساسي في فريق السلطة يقول إنه ليس مرشحاً، «لكنه يعمل لذلك مستقتلاً، مع كل جماعته». ركن آخر يفكر في العودة الى الموقع، «لكن فؤاد شهاب كان رئيساً ناجحاً، ولم يقبل الناس بعودته عام 1970، ولا هو ارتضاها أصلاً». موظف كبير يرى البعض أنّه مؤهل للموقع، «لكن اذا كان فاشلاً في عمله الراهن، فكيف يكافأ بالرئاسة! واذا كان ناجحاً في اختصاصه، فلماذا إلباسه وإلباس خلفه ثوبين مستعارين!». موظف كبير آخر مطروح كحل، «لكن الناس شبعوا من تعديل الدستور». نائب سابق يُعدّ أفضل مرشحي تجمعّ سابق معروف، «لكن هل من المستحب أن يخلف هو الرئيس الحالي!».
هكذا تبدو الجردة الرئاسية كاملة وفق الأوساط العارفة، ووفق اللغة المشفّرة لأصحاب الكلام. من يبقى؟ في المبدأ، مرشح قادر على تأمين نصاب الثلثين. في الواقع لا كلام ولا اشارة ولا حتى تلميح. فتجربة لائحة الأسماء البطريركية لا تزال ماثلة في ذاكرة الصرح الحيّة، والاتهامات المزمنة بالميل الى ريمون إده، لا تزال تراود أقرب القريبين.
ماذا يبقى؟ إعطاء المزيد من الوقت للوقت...