إبراهيم الأمين
يبدو أن استعجال القوى المحلية لإنتاج تسوية خارجية في ملف المحكمة الدولية، لا يأخذ بعين الاعتبار تفصيلاً الحاجات الخارجية. ويتصرف أقطاب من فريق 14 آذار مع الملف خارجياً بسذاجة ويتكلمون كأنهم يواجهون جمهورهم الذي أظهرت الأحداث قدرته على تقبل أفكارهم وقراراتهم مهما كانت خاطئة. وهؤلاء يفترضون اليوم أن الأمور سوف تنجز لمجرد أن 14 آذار تريد ذلك، حتى إن أحدهم يفترض أن الأمور تسير وفق حسابات تتعلق بالجريمة نفسها. وحصل قبل أيام أن قال قطب بارز في هذا الفريق أمام مناصرين في جلسة مغلقة إن الولايات المتحدة ودولاً أخرى تريد من المحكمة حقيقة من قتل الرئيس رفيق الحريري، وفقط الحقيقة، ما اضطر أحد الحاضرين إلى سؤاله عن الأسباب التي تدفع بالولايات المتحدة إلى هذه الشهامة، وهي تفعل ما تفعله في العراق، فرد القطب: إذا كنت تقصد أن تسوية حول العراق يمكن أن تتم على حساب المحكمة، فهذا لن يحصل. فرد السائل: أنا أفترض العكس وأن تكون المحكمة وسيلة للوصول إلى تسوية حول العراق.
اللطيف في الرواية أن نقاشاً بدأ مع هذا القطب الذي سبق له أن اشترط على مناصريه إعارته عقولهم حتى إشعار آخر. لكن كمية الفوضى التي تصيبه في تفكيره وفي مواقفه دفعت بعض المقربين إلى لفت الانتباه من خلال أسئلة، وقد تعاظم الأمر في الآونة الأخيرة، بعدما تبيّن أن المداولات الجارية في مجلس الأمن لا تشير إلى حسم سريع لملف المحكمة. وإن هناك عقبات متنوعة بعضها سياسي وبعضها إداري وبعضها الآخر قانوني. وهي أمور تبلغتها القوى المعنية في لبنان، وسمع وفد الرئيس فؤاد السنيورة إلى نيويورك وواشنطن كلاماً مفصلاً عليها.
ويشير مصدر مطلع في العاصمة الأميركية إلى أن الوزيرة رايس قالت كلاماً حاسماً يعبّر عن وجهة جدية في الدفع نحو الوصول إلى الفصل السابع، لكنها قالت إن الأمر يحتاج إلى خطوات تمهيدية، منها اقتناع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بإقفال ما يفترضه هو من نوافذ لتسوية في لبنان، ومنها أن فرنسا تريد خطوات لا تظل متعلقة بكل الحسابات التي بنى عليها الرئيس المنتهية ولايته جاك شيراك بعض الحسابات وبعض الخطوات. (علماً بأن الرئيس الجديد ترك السياسة الخارجية على حالها وإن بلا مبادرات لستة أشهر أخرى كمرحلة انتقالية)، كذلك لوجود معلومات عن موقف روسي متشدد حيال آلية اتخاذ القرار في مجلس الأمن، وصولاً إلى الحديث عن رسالة بعثت بها رايس إلى البيت الأبيض تلفت فيها انتباه رئيسها جورج بوش إلى أن إقرار الأمر بدون عقبات متوافر من خلال الأصوات التسعة، لكن التأكد من عدم لجوء روسيا إلى الفيتو، لأي سبب كان، يتطلب اتصالات مباشرة من بوش بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن هذا الأمر تحديداً، وإنه يصعب ترك الأمر إلى خطوات دبلوماسية على المستوى العربي فقط، في إشارة إلى حديث بان كي مون عن اتصالات سورية ــــ سعودية يمكن أن تحسم الأمر إيجاباً في لبنان، بعدما تبيّن أن وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل لم يبتّ موعد زيارته إلى دمشق، وثمة حديث عن نيته تأخيرها إلى ما بعد إقرار المحكمة في مجلس الأمن حتى لا تكون بنداً على جدول الأعمال، وانه مستعد في المقابل لأن يحمل دعماً سعودياً لفكرة حكومة الوحدة الوطنية وفق شروط المعارضة وحلفاء سوريا في لبنان!
ويلفت المصدر إلى أن العقبات الأخرى تعود إلى ما خرج به بان كي مون ومساعده نيكولا ميشال أخيراً من استنتاجات. وينسب المصدر إلى أحد معاوني بان أن ميشال سبق أن عقد نحو أربعين اجتماعاً مع السوريين في الأمم المتحدة لمناقشة ملف المحكمة ونظامها وأمور أخرى، وهو لم يقرّ الصيغة الأخيرة إلا وفق ما وجده عند هؤلاء. لكن الجديد هو المتصل بموقف بان كي مون نفسه. فعندما كان في زيارة إلى دولة عربية أخيراً، سمع دعوات إلى التمهل منعاً لحصول انفجار كبير في لبنان بسبب المحكمة. ولما قال إن شخصيات الحكم في لبنان كما شخصيات المعارضة قد أكدت له رفضها الانجرار إلى حرب أهلية، أجابه مسؤول عربي كبير بأن الأمور لا تتم في لبنان على هذا النحو، وأن من المفيد له أن يأخذ بعض الوقت الإضافي وأن يعود إلى زيارة لبنان من جديد حتى تتكوّن عنده صورة أوضح للتوازنات والتعقيدات التي قد تنفجر بسبب ملف المحكمة نفسه، الأمر الذي دفعه إلى القبول بالأمر، وخصوصاً أنه أدرك بعد زيارته سوريا أن هناك مواقف سلبية قوية من مساعدين له ومن موظفين كبار في المنظمة الدولية لا يحظون بثقة الأطراف المعنية بملف المحكمة سواء في سوريا أو في لبنان.
أما الأمر الآخر فيعود إلى نقاش مادي حول قدرة الأمم المتحدة على تحمّل كلفة المحكمة وعملها خلال سنوات قد تطول كثيراً، وهو أمر سوف يكون حتمياً إذا بادر مجلس الأمن إلى إقرار الملف تحت البند السابع. وبالتالي هناك أمور أخرى قد تفرض نفسها، وهذا ما ليس في حسابات بعض الدول الأعضاء، عدا الأسئلة المتعلقة بحقيقة الموقف اللبناني في ضوء الرسالة غير الواضحة التي سبق للرئيس فؤاد السنيورة أن بعث بها إلى الأمين العام للأمم المتحدة ويطلب فيها اتخاذ المناسب لإقرار المحكمة. وتبيّن لاحقاً أن الجانبين، الأميركي والفرنسي، وكذلك مكتب بان كي مون، يريدون رسالة تقول بوضوح إن على مجلس الأمن اللجوء إلى الفصل السابع إذا اضطر إلى ذلك، وأن يسارع إلى القول بأن المؤسسات اللبنانية لم تعد قادرة على إنتاج توافق، في ردٍّ إضافي على اقتراح التأجيل إلى ما بعد نهاية الشهر الحالي، موعد نهاية العقد العادي للمجلس النيابي، وسط توقعات بأن المجلس لن يعود في هذه الحالة إلى العمل إلا مع بدء المهلة الدستورية الخاصة بالاستحقاق الرئاسي.
ومع ذلك، فإن الاتصالات التي تقوم بها فرنسا وأقطاب من 14 آذار مع الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، تلحظ عملياً طلب إقرار المحكمة في أي وقت، وعدم وضع جدول زمني مسبق. وذلك خشية إنعكاس المفاوضات الإقليمية الجارية الآن على هذا الملف. وإن كان موفد الرئيس السنيورة إلى الولايات المتحدة الأميركية محمد شطح حاول التهرب من مسؤولية رئيسه عن الخطوات المتسارعة، وهو الذي حمل إليه رسالة واضحة بشأن طريقة مخاطبة مجلس الامن، وأن يصار الى البت بالأمر في ضوء النتائج المفترضة لزيارة مرتقبة لبان كي مون إلى لبنان من جديد. وهو الاستحقاق الذي يتردد أن وسيطا يعمل على أن يجعله شاملاً ملفات أخرى من بينها ملف الحدود مع سوريا ما يفرض على الأمين العام للأمم المتحدة زيارة سوريا من جديد.