عرفات حجازي
الزيارة التي قام بها البطريرك الماروني نصر الله صفير إلى القصر الجمهوري ظهر الجمعة الماضي فاجأت الأوساط السياسية، بمواليها ومعارضيها على السواء، وحملت في طياتها دلالات مهمة، وخصوصاً في توقيتها ومضمونها وظروفها، حيث طرحت مواضيع أساسية للنقاش، في طليعتها الاستحقاق الرئاسي والخيارات التي قد يلجأ إليها الأطراف المتنازعون إذا تعذر إنجاز هذا الاستحقاق.
وأياً تكن الروايات والمعلومات التي تسربت عما دار في لقاء الساعات الثلاث، فإن من استمع إلى تصريح البطريرك، وقرأ بين سطوره، يخرج بانطباع أن الزيارة كانت ناجحة وحققت أهدافها. غير أن المنشغلين على خط التقارب بين بعبدا وبكركي خلصوا إلى نتيجة مؤداها أن الأمور بقيت على حالها، فلا الرئيس إميل لحود استطاع إقناع البطريرك بوجهة نظره حول القضايا الخلافية في البلد، ولا نصائح صفير أفلحت في تغيير مواقف رئيس الجمهورية، وإن كانت الزيارة قد كسرت جليداً بين الرجلين تراكم لفترة طويلة، وأدى إلى انقطاع الحوار بينهما.
وبعيداًَ عن التسريبات والمعلومات التي تناقلتها وسائل الإعلام عما دار في المحادثات، فالمؤكد أن أمرين استأثرا بالاهتمام واتفق على متابعتهما لاحقاً.
الأمر الأول هو السعي الحثيث لإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، وضمن الآليات المنصوص عليها في الدستور، والحؤول دون قيام حكومتين تعمقان حدة الانقسامات السياسية. لكن هذه المسألة شرطها وفق رؤية لحود تشكيل حكومة وحدة وطنية تحفظ التوازنات الداخلية، لافتاً البطريرك صفير في حال تعذُّر إجراء الانتخابات الرئاسية لسبب أو لآخر، وتعذر تأليف حكومة وحدة وطنية قبل الانتخابات الرئاسية، إلى أن من المستحيل أن يسلم البلاد وصلاحيات الرئاسة إلى حكومة يراها غير شرعية وغير دستورية وغير ميثاقية، من دون أن يفصح عن الإجراء الذي يمكن أن يلجأ إليه في هذه الحالة.
الأمر الثاني: التوافق على أن الانتخابات الرئاسية هي المدخل السليم لاستعادة المسيحيين لدورهم وحضورهم في المعادلة اللبنانية، وفي نطاق المشاركة الحقيقية في الحكم. وإن هذا الاستحقاق يشكل محطة مفصلية لإنقاذ لبنان واستقراره، وهذا يتطلب اقتناع جميع الأفرقاء بأن اللجوء إلى سياسة المكابرة والمكاسرة قد يدفع بالبلاد نحو المجهول واستعادة تجربة عام 1988، وبالتالي لا بدّ من بذل جهود إضافية للتوافق على تسوية سياسية وعلى رئيس مقبل يكون على مسافة واحدة من الجميع وقادر على لعب دور الحكَم.
ومن منطلق التوافق على هذين الأمرين: تشكيل حكومة وحدة وطنية، والتفاهم على رئيس حكَم، انتهى لقاء البطريرك صفير والرئيس لحود، مع الإبقاء على التواصل المستمر لدفع القطار الرئاسي في الاتجاه الصحيح.
ويعوِّل قياديون في الموالاة والمعارضة على الدور الكبير الذي يمكن أن يؤديه البطريرك لجهة تحديد مسار الاستحقاق الرئاسي وضبط إيقاعه بالتفاهم والتشاور مع رئيس المجلس النيابي الذي لم يخف ارتياحه لمواقف البطريرك، وخصوصاً لجهة الحرص على إجراء الانتخابات وفق الأصول الدستورية وبمشاركة جميع الأطراف، وأن يكون الرئيس توافقياً وغير منحاز، وهذا ما يتقاطع مع رؤية الرئيس نبيه بري الذي ينطلق من اقتناعه بأن الطرفين في الموالاة والمعارضة يحتاج كل منهما إلى الآخر، لأن أحدهما ليس في وضعية تمكنه من حسم الاستحقاق الرئيسي لمصلحته. فإذا كانت الأكثرية تمتلك ورقة الانتخاب، فإن المعارضة تمتلك ورقة النصاب. من هنا حتمية التوافق على رئيس يشكل اختياره مدخلاً إلى الحل ويمتلك القدرة على التعاطي والتفاعل مع كل القوى السياسية. وفي هذا الإطار ليس شرطاً أن يكون الرئيس من هذا الفريق، أو ذاك، ربما حصل ذلك بالتفاهم، فالمنطلق الأساسي أن يجري التوافق على شخص أياً كانت اتجاهاته السياسية.
ورغم المخاوف التي يبديها بري من إمكان لجوء فريق السلطة إلى مزيد من انتهاك الدستور وتجاوزه، فينتخب رئيساً على أساس نصاب النصف زائداً واحداً وأن يكون الرد على هذا التصعيد والتجاوز بتشكيل حكومة ثانية بحجة الحفاظ على الدستور، وإذ ذاك تفلت الأمور وتضع لبنان أمام مأزق خطير لا يستطيع أحد ضبط إيقاعه، لا يساور الرئيس بري القلق من وصول الأمور إلى دائرة الانسداد، فهو يراهن على وطنية القوى الأساسية القادرة على إعادة إنتاج وفاق سياسي حول المواضيع المختلف عليها، لأن البلد لا يحكم إلا بالتوافق، والدول الفاعلة والمؤثرة في مسار الوضع اللبناني تدرك مخاطر الوصول إلى فراغ سياسي لن تظل انعكاساته محصورة في الداخل اللبناني، بل ستطال بشكل أو بآخر الاستقرار الإقليمي ومصير القرارات الدولية ومهمة قوات الطوارئ الدولية ومستقبل الوضع على الحدود وفي جنوب لبنان. وهذه الدول تشجع القيادات اللبنانية على مواصلة مسعاها لإنضاج فكرة الرئيس التوافقي وأن تجري الانتخابات وفق أصولها الدستورية لتجنب الوصول إلى فراغ وفوضى سياسية ودستورية تؤدي إلى انقسام في المؤسسات والإدارات في ظل وضع أمني مكشوف وأزمة اقتصادية قاتلة.