إبراهيم الأمين
الأمانة العامة للأمم المتحدة مشغولة هذه الأيام بكثير من الأنشطة التي تقع ضمن دائرة العلاقات العامة. موظفون كبار عملوا مع الامين العام السابق كوفي أنان يغادرون، وحفلات وداعية تقام لهم تضج بها مكاتب المنظمة الدولية. ولقاءات بروتوكولية مكثفة للأمين العام الجديد بان كي مون. وثمة معارك كبرى تشنّ للاستيلاء على هذا الموقع أو ذاك. ومن يستمع الى الرجل الآسيوي من زواره الموظفين أو الدبلوماسيين يخرج بانطباع لافت «قليل الاستماع لكنه طموح جداً». وعندما يعرض برنامج عمله في المرحلة المقبلة، يقول الكثير، من إصلاح المبنى الذي يعيش فيه الى إصلاح النظام السياسي في العالم كله. وعندما يتطرق الحديث الى الأوضاع الساخنة في الشرق الاوسط، يزيد من رفع حاجبيه ويتحدث بطلاقة وحماسة عمّا يملكه من قدرة ورغبة في أن ينجز الكثير: لقد زرت الشرق الأوسط ثلاث مرات في شهرين. لديّ الكثير من العلاقات وأنا أعمل على بناء أوثق العلاقات مع من بيده الامر في المنطقة.
يوم عقد مؤتمر باريس الشهير من أجل لبنان، جلس بان كي مون الى جانب آخرين يتقدمهم الرئيس الفرنسي جاك شيراك ودار نقاش مع الصحافيين لأكثر من ساعة ونصف. ومع أن البعض كان قادراً على توقع إجابات الحاضرين إلا أن اللافت أنه لم يتوجه أحد إلى بان بسؤال. قال مساعدون له إن الامر تم بتفاهم قائم على أساس عدم إحراجه لأنه واصل حديثاً الى موقعه. لكن «خبرته» في أحوال المنطقة عندنا، بانت من خلال إعجابه بمياه البحر المتوسط على أساس أنها جزء من المحيط. ثم ما لبث أن ناقش مصير القوة الدولية في الجنوب اللبناني من زاوية آخر تقرير قرأه، وفيه شكاوى إسرائيل المتعلقة أيضاً بتهريب سلاح من سوريا الى حزب الله. لم يكن لديه من يلفت انتباهه الى ضرورة السؤال عما إذا كانت هناك تقارير أخرى عن تهريب السلاح عبر إسرائيل. وبالطبع لم يثر معه أحد ملف الخروق الاسرائيلية للحدود اللبنانية، كان أكثر اهتماماً بالحديث عن إنجاز مسّاح أميركي لملف الحدود في مزارع شبعا. وتحمس كثيراً لإعلان النبأ السار. لكن جاء من العاصمة الاميركية من يبلغه أن الوقت لم يحن بعد لوضع ملف شبعا على الطاولة، مع شرح اضافي من نوع أن الترابط بين ملفات الشرق الاوسط يمنع حل كل قضية بمفردها، ولا تقبل الولايات المتحدة أن يطلب من إسرائيل تقديم تنازل مقابل لا شيء. تصرف الرجل ببساطة ولم يكن يمثل حين قال إن تحقيق هذه الخطوة سوف يسحب ذريعة استمرار المقاومة من جانب لبنان. وعند هذا الحد من «السذاجة» جاءه الجواب من إسرائيل نفسها: إن مبررات حزب الله لا تتوقف عند مزارع شبعا.
في ملف المحكمة الدولية، كان بان كي مون يتحدث بقوة عما يمكن تحقيقه في إطار التوافق اللبناني الداخلي لإنجاز الامر لبنانياً. زيارته ومساعده للشؤون القانونية الى بيروت انتهت بالشكل، ولم تحقق ما يراه هو نتائج كاملة. لكن في مجلس الامن من يضغط بقوة. وبعض الاتصالات الروسية والعربية (قطر تحديداً) دفعته الى العودة الى مناقشة إضافية، لكن هذه المناقشات ظلت في إطار بناء العلاقات العامة لا أكثر. وهو يستعد الآن للاجتماع الشهري مع أعضاء مجلس الامن غداً الثلاثاء، وفيه سوف يقترح رئيس المجلس، وهو لهذه الدورة المندوب الاميركي، جدول أعمال للعمل خلال الشهر المقبل. سوف يكون بين نقاط البحث ملف المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وملف آخر أكثر تفجراً هو ملف كوسوفو، حيث الغليان الروسي في تصاعد مرفقاً بحملة ذات بعد حضاري: إنه هجوم على السلافيين!
قبل مدة من الوقت تردد أن بان كي مون سوف يعود الى المنطقة. لكن مداولات الأيام الاخيرة استبعدت هذا الخيار دون ان تلغيه. والمحادثات التي أجراها محمد شطح وأمل مدللي في نيويورك وواشنطن، موفدين من الرئيس فؤاد السنيورة والنائب سعد الحريري، لم تصل الى خلاصات حاسمة. كان المطلوب منهما توضيح سبب «التردد وقلة الوضوح» في مخاطبة السنيورة لمجلس الأمن. وفي واشنطن عقد اجتماع حضره ممثلون عن الأمم المتحدة ومحامون أميركيون، وحسب مصدر موثوق فقد أعدت مسوّدة رسالة سوف ترسل هذا الأسبوع الى السنيورة للتوقيع عليها. وبحسب ما هو مفترض فإن في مشروع القرار الذي سوف يكون أمام أعضاء مجلس الامن ما يفيد بأنه «بسبب فشل لبنان في تطبيق قراري الأمم المتحدة 1595 و1644 سيوافق مجلس الأمن على قراراته الخاصة المتعلّقة بالمحكمة الدولية، والتي تنصّ على إيقاف الإجراءات القضائية اللبنانية مع ترك أمر تعيين وتمويل القضاة الى اللبنانيين». وقد عزز هذا التوجه ما خلص إليه القانوني ميشال من أن المناقشات اللبنانية الداخلية لن تقود الى نتيجة سريعة. كذلك ما قاله ممثل بان في لبنان غير بيدرسون من استبعاده حصول إقرار لمشروع المحكمة في المجلس النيابي اللبناني. وتشديد على أن التعقيدات تتزايد يوماً بعد يوم، علماً بأن بيدرسون نفى أن يكون قد بعث برسالة الى رئيسه في شأن هذه النقطة، علماً بأنه بعث الكثير بما خص القرار 1701 وملف الحدود الجنوبية او الشرقية على حد سواء.
ومع أن الأمين العام للأمم المتحدة لم يتلق لغاية الآن رسالة السنيورة التي يطلب فيها من مجلس الأمن إقرار المحكمة الدولية تحت الفصل السابع، فإن الاشارة الاولى التي يحتاج إليها جاءت على لسان النائب الحريري بعد اجتماعه مع الرئيسين شيراك ونيكولا ساركوزي والتي قال فيها إنه شخصياً وبما يمثل يدعم اللجوء الى الفصل السابع. وهو سارع بعد ذلك الى بناء لوحة من التوقعات (أو التمنيات لا فرق) عما هو متوقع من تطورات بعد حصول هذا الامر من جهة أخرى، ومع ذلك يتخوّف البعض من أن يُعطّل رئيس المجلس نبيه بري هذه الإجراءات، لذلك يطالبون مجلس الأمن بالتطبيق الكامل لقراراته الخاصة المتعلّقة بالمحكمة. ومن المتوقّع أن يُتخّذ القرار النهائي بشأن شكل المحكمة في بداية الأسبوع المقبل قبل أن يتقدّم بان كي مون الى مجلس الأمن. إن مسألة إنهاء الإجراءات ليست عاجلة وقد ينتظر مجلس الأمن لغاية شهر حزيران للموافقة على المحكمة، وذلك بعد انتهاء العقد العادي الحالي للمجلس النيابي.
أما النقطة الاخيرة التي تنتظر البت حتى يمكن القول إن مسيرة المحكمة قائمة من دون عراقيل، فهي ما يُنتظر من المشاورات المباشرة بين الرئيسين الأميركي جورج بوش والروسي فلاديمير بوتين، ومن المتوقع أن يلتقي الرجلان في الاسبوع الاول من الشهر المقبل، حيث يعتقد كثيرون أن إقرار المحكمة لن يتم قبل هذا الموعد.