strong>رنا حايك
  • نصوص وصور نادرة وغرافيك... ولا شيء يتغيّر من سنة إلى أخرى سوى رقم الذكرى

    في الذكرى 59 لنكبة فلسطين اليوم يحيي الفلسطينيون الذكرى بطرق مختلفة. أبناء الجيل الجديد يهربون إلى عالم الإنترنت، يحكون من خلاله أوجاعهم وتعلّقهم بوطنهم، ويروون للعالم كله حكايا فلسطين. الجولة في الشبكة الافتراضية تفتح الباب على عشرات بل مئات المواقع التي أنشأها فلسطينيون، هنا زيارة لبعض المدونات والمواقع

    تسعة وخمسون عاماً مرّت على نكبة فلسطين. وعلى رغم الظروف الإقليمية والعالمية الضاغطة، يظهر أبناء «القضية الفلسطينية» عناداً وإصراراً كبيرين على التمسك بـ«الذاكرة». تكررت حكايات النكبة وذكرياتها لعقود على ألسنة شخوص عايشوها، ورددها أولادهم وأحفادهم... إلى أن جاء الجيل الشاب الجديد لينقل الحكايات والمعاناة إلى منتديات العالم الافتراضي.
    انتقلت الحكايات من ألسنة من عاشوا النكبة إلى أبنائهم وأحفادهم، واختلفت نبرة الراوي المتّكئ إلى عصاه والممتلئ بنوستالجيا الديار عن نبرة جيل لا يملك سوى الحب والغضب والإحباط. تسلم جيل المدوّنين والمشاركين في المنتديات الإلكترونية الشعلة من الرواة المسنّين قبل أن تنطفئ بانطفاء أعمارهم. ساعدتهم ثورة التكنولوجيا على التواصل على رغم الشتات الذي يبعثرهم، وتمكنوا من خلال العالم الافتراضي من اجتياز حواجز وعوائق ضد حرية التعبير المطبقة في مخيماتهم، وكسروا الحواجز الأمنية التي تحاصرها.
    تستحوذ القضية الفلسطينية على معظم مواضيع النقاش المطروحة في منتديات الفلسطينيين مثل «مدن» و«الحوار المتمدن» و«نادي الفكر العربي» وغيرها، وتتصدّر الاهتمامات كل عام في مثل هذا اليوم. لا يكتفي الأعضاء بكتابة النصوص، بل ينشطون في ابتكار أعمال الغرافيك، فقبل يومين أطلق السيد «كلاشينكوف» في موقع «يساري دوت كوم» دعوة للمهتمين بإرسال تصاميمهم الجديدة الخاصة بذكرى النكبة، بينما تكاثرت النصوص والرسوم في موقع «حنين» الفلسطيني، الذي يتضمن مجموعة منتديات «الحرية» ومنها «سجل الخالدين» و«الأسرى»، ومنتدى «النكبة والعودة».
    الكتابات عن «النكبة» في منتدى «حنين» تستمر على مدار العام، وتتنوّع بين الأبحاث والإحصائيات عن تاريخ النكبة ووضع اللاجئين بالحقائق والأرقام، وثمة كتابات عن حق العودة.
    صاحب الاسم الافتراضي «لن أكون عبداً بعد اليوم» يبحث في مكوّنات حق العودة أي «الحلم، والواقع، وصراع الإرادات». وفي منتدى «حنين» أبحاث أخرى عن أوضاع الفلسطينيين في الشتات، وعن «لعنة الهجرة والتجنيس الأجنبي»، وعن الفلسطينيين في أميركا، ورسالة من «لاجئ حتماً سيعود» عنوانها «هل سنعود؟»، تقابلها أخرى من «مهاجر» عنوانها «سأعود». بينما تكتب «سمراء يافا» عن «حزن مستمر على صغير اليوم، مناضل الغد، أسير اليوم الذي يليه، شهيد المستقبل».
    وكما هي الحال في جميع المنتديات، لا تقتصر المشاركات على النصوص والأبحاث، فصور الوطن «الحلم» حاضرة، تتخلّلها صور عن تهجير الفلسطينيين عام 1948التأريخ» الشفوي لا يغيب عن «حنين»، ففي المنتدى تسجيلات لحلقات إذاعية ومقابلات مع أهالي المناطق والقرى الفلسطينية: بيسان وكفرة والحمرا وسيرين وبئر السّبع وغيرها...
    واللافت في عالم المدونين الفلسطينيين، هو كثرة الكتابات عن النكبة في مدونات أبناء المناطق التي احتلت خلال النكبة، بعض هؤلاء يرفضون تسمية «عرب 48»، ويصرّون على تأكيد هويتهم الفلسطينية، وفي مدوناتهم عدد كبير من المقالات المكتوبة باللغة الإنكليزية. أرق الهوية ووجع «الازدواجية» المفروضة عليهم يحثّانهم على تأكيد هويتهم في كل مناسبة، يساعدهم على ذلك توفّر الإمكانيات العملية التي تتعذّر، في المقابل، على فلسطينيّي الضفة الملاحقين بخطر التعقب الأمني والغارقين في نمط حياة يمنعهم من التفرّغ للكتابة.
    صاحب مدونة «الباب الآخر» اسمه إبراهيم «تأتي إليه فلسطين في الأحلام خلسة كالعشيقة» منذ 59 عاماً. خلال كل ذلك الوقت، يمارس الفلسطيني طفولته «فقط في حملات التطعيم»، ويبحث «من أين يبدأ البحث». كل ذلك الوقت و«المآذن تركع للجرافات». ويعتذر إبراهيم لأنه ليس ضليعاً في اللغة العربية الفصحى.
    أما «بكرية البهية»، صاحبة مدونة «الثامن من ديسمبر»، فتتساءل عما تعنيه العروبة بالأساس. وهل على الغرب أن يكون موجوداً لنحدد عروبتنا نسبة إليه، هو «الآخر، المختلف»؟ تتكلّم بكرية على الوهم، على انفصام في الشخصية، وعلى قناع وحالة من النسيان. يحظى مقالها بالعديد من التعليقات. أحدها يصف تعليقها بـ«خواطر معقولة»، ويؤكد «نحنا نسينا كيف نكون عرباً، والمشكلة أن الذين يدّعون أنهم عرب عاملين فينا العمايل...».
    تـــــــتركّز تســـــــــاؤلات بكرية على الـــهوية، والــــــــــزمن الذي يمرّ من دون توضيحها، فتكتب في ذكرى النكبة أنها تعرف معادلة حسابية: 2007 - 1948 = 59، يعلّق عصام: «الحمد للّه أننا نحن العرب ما زلنا نعرف كيف نعدّ فقط.. فمن سنة إلى سنة، الشيء الوحيد الذي يتغير في القضية هو رقم الذكرى التي تكتب إلى جانب صور الأقصى في المنشورات والملصقات». ويصادق شريف على كلامه، فـ«نحن أصلاً لسنا سوى أرقام». وفي مدوّنتها «كلمات من داخل 48»، تسرد ياسمين «خواطر فتاة تعيش داخل الخط الأخضر». عنوانها في البطاقة التعـــــــــريفية الخاصة بالبيانات الشخصية للمدوِّن هو «بلاد تبحث عن هوية»، وهو عنوان شبيه بالعناوين التي يتبنّاها معظم المدوِّنين الفلسطينيين. فعبارات «فلسطين، كوكب الأرض» و«فلسطين، العالم» تكاد تكون العبارات الأكثر انتشاراً على بطاقات التعريف بهم في مدوّناتهم.
    من كل أصقاع الأرض تعلو أصوات الفلسطينيين على الشبكة الإلكترونية، حنظلة يزيّن برسومه مدوّنته «الأولة بلدي»، تكثر تصميماته الغرافيكية عن فلسطين وذكرى النكبة ويطغى اللون الأحمر على مساحاتها ليذكّر بالدم الفلسطيني المسفوك. أمل عكوش التي تعيش في لبنان، تسمّي مدوّنتها على اسم قريتها الفلسطينية البعيدة «ميرون»، ذات الاسم الذي تمنحه لشخصية كاريكاتورية ابتدعتها لتحمل الصليب بعد حنظلة ناجي العلي، بينما يدرج «أحمر» في مدونته «فرج الله» روابط مدونات أصدقائه من الفلسطينيين تحت باب «ضحايا الميرمية»، وعشتار هي إحدى هؤلاء الضحايا، حيفاوية تعيش في القاهرة ولا يفارقها بحر حيفا ونجوم سمائها، فهو «جمال مأساوي عميق الجرح». تشرح وجعها، فتقول: «أنا التي عرفت المدينة قبل النكبة، عندما كان يعمرها 70 ألف فلسطيني، لم يبق منهم سوى 3 آلاف بعد وقوعها. أمرّ بالبيوت فأتذكّر أصحابها، أتذكّر الأصدقاء واللقاءات وأرى الكرمل والبحر والأفق الفتّان فينزف الجرح وتحوم أسراب السنونو فأرى فيها أسراب مفاتيح».
    المدينة الحلم تسكن عشتار، كما تسكن كل الفلسطينيين. كلهم عادوا، تماهوا مع الحلم ولمّوا شتاتهم وخاضوا حروبهم على الشاشة وبنقرة إصبع. فعلوا كل ذلك ويفعلونه افتراضياً. خطوا خطوة إلى الأمام بعد جيل ورثوا عنه الحكايات، فحشدوا جهودهم، وها هم يسخّرون التكنولوجيا ليرفقوا الحكايا بصورة ويقولوا من خلال العالم الافتراضي إنهم متمسّكون بالحلم وإنه لن يموت...




    «غيفارا» يكتب: لا جدار يحاصر البحر تذخر مدوّنته «واحد افتراضي» بالكتابات الأدبية والسياسية المفعمة بالسخرية السوداء، إضافة إلى الصور الفوتوغرافية للقدس وسمائها، والأعمال الغرافيكية التي تستعيد ذكرى النكبة وتنادي بـ«الحرية لسمير القنطار» وبـ«الخلود لذكرى المبدع التشيلي فكتور جارا».
    لا ينسى غيفارا أحداً. يحيّي البطل المصري سليمان خاطر، ويرثي نجيب محفوظ، ويفتقد صوت جوزيف سماحة، ثم يستعرض قصة جيله من الشباب مع البطولة: فبعد أن «استعرنا من سابقينا أبطالهم»، كان علينا أن نملأ الفراغ الذي أحدثه غياب «الأمثولات البطولية» ابنة عصرها، بحشوات تاريخية، أي بأبطال «لا يستمدون بطولتهم من الإقدام بقدر ما هم، أكثر من غيرهم، مرشحون للبطولة بضغط من حاجة التاريخ (الذي على أهبة الانفجار)، وربما بضغط سببه حاجة من لم يولد بعد إلى مشجب يعلق عليه كفنه». كتابته نتاج ذكاء لاذع ولسان سليط ونظرة ثاقبة وإصبع تعرف موضع الجرح، فيوجع حين ينكأه. ففي مدونته الثانية «روبابيكيا افتراضي» نجد «راس العبد ودخان فرط وصوراً قديمة لأعراس ناس ماتوا ورسائل حب عتيقة لأناس صاروا يلبسون ربطات عنق ويدخنون دافيدوف. هنا لا نزيل الغبار عن البضاعة، إيماناً منا بأن التراكم النوعي يؤدي إلى تغيير كمّي».
    أما في مدونته «غرزة المعلمة فتكات»، فيعلن عن فيلم الموسم، معجزة السينما الفلسطينية «قوم يا...»، من بطولة مسؤولين في السلطة الفلسطينية. وفي نصّه «دائرة قطرها 30 سم»، يتذكّر يومياته مع زميله في الزنزانة عميد الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية سمير القنطار الذي خيّره بين أسلوبين في ممارسة الشيوعية: أسلوب ماركس ومفاده أن «ما لي هو لك وما لك لي وما لنا للحزب وما للحزب لنا.» وأسلوب غيفارا الذي يؤمن بشعار واحد: «اللي عايش على حسابي وحسابك بدنا...».
    ويكتب «غيفارا» الافتراضي رسالة إلى «البيروتي الذي يعرف نفسه جيداً»، فيقاوم عزلته ويقدم دليلاً حياً على صلابة موقفه في مواجهتها، فـ«لا جدار قادر على حصار البحر الذي في جيوب الصيادين، لا جدار يستطيع فرض حظر التجول على الأرصفة الوحيدة حين تنفذ شجرة ياسمين تفجيراً لدمها المعطر بالدهشة في الزاوية الخلفية لشارع العشق والإنكسارات الأولى، لا جدار قادر حقاً على خنق الدخان المنبعث من سيجارة فتى يتعلم التدخين... لا جدار قادر على مد جذوره في الأرض كشجرة ليمون».