غسان سعود
فجأة دبّت الحياة في شارع الجمّيزة الساكن. وتحوّل من حيّ ساكن ينعم أهله بالهدوء إلى أكثر المناطق إزعاجاً بسبب صخب الموسيقى وزحمة السير. الأهالي يرفعون الصوت احتجاجاً فيما تتلكّأ أجهزة الدولة في تطبيق قانون يوفّق بين حقوق المواطنين وحق المستثمر

يجهد أهالي الجميزة في تذكّر المعالم التي تعيد رسم صورة العمارة في حيّهم قبل بضع سنوات.
وفيما تطغى بسرعة لغة الماضي على كلامهم، تبدو واضحة محاولة أبناء الحيّ التمسك بالحدّ الأدنى من ذكرياتهم الجميلة في الجميزة ليواجهوا «تسونامي» الحياة الليلية الذي يجتاحهم مهدداً بنسف كل ما شابوا عليه.
وتعود إحدى السيدات بضع سنوات إلى الوراء لتروي ما كان عليه الوضع: «يومها لم يكن هناك مكان يستقبل أهل السهر غير «قهوة الزجاج»، تقدّم لهم القهوة والشاي والنرجيلة. بينما تغيّرت الحال الآن وبتنا نعيش في ما يشبه النادي الليلي. موسيقى، صراخ، ومشاهد معيبة طوال الليل». بدأت هذه الظاهرة قبل نحو أربع سنوات، مع إقفال السوق في وسط بيروت و«مونو» وبدء المقاهي الليلية بالتسلل إلى الجميزة لتغدو الأخيرة بسرعة قياسية واحدة من أبرز مساحات السهر في لبنان. ويقدّم اليوم المستثمرون أسعاراً خيالية لأصحاب المحال لقاء تأجيرها أو بيعها، علماً أن غالبيتها كانت مقفلة، أصحابها توفوا أو هاجروا أو انتقلوا للسكن والعمل في أماكن أخرى. هكذا تبعثرت معالم الحي. هنا مقهى كان صيدلية، وهنا نادٍ ليلي كان فرناً، وتلك العيادة القديمة تحوّلت مطعماً.
ويصف أحد المسنّين المحال المقفلة بـ«الشحمة على الفطيرة»، وخصوصاً بعد انتقال معظم المطاعم والمقاهي من وسط بيروت إلى الجميزة إثر اعتصام المعارضة. ووسط هذا «الاجتياح»، يلجأ الأهالي إلى النكات فيعلّق أحدهم على مدخل بنايته ورقةً تبلغ المهتمين رغبته في تأجير «كابين الأسنسور وغرفة الكهرباء». فيما تحذّر إحدى السيدات من «تحول مرتقب للكنيسة الكاثوليكية في الحيّ إلى مقهى».

بين الأمس واليوم

تتشجّع إحدى العائلات التي تسكن في شارع الجميزة «أباً عن جد» على رواية قصتها. فتجتمع، في المنزل الفسيح الواقع في الطابق الثاني من مبنى يتخطى عمره سبعين عاماً، سيدة في العقد الرابع من عمرها، ووالدتها السبعينية، وشقيقاها، ويندفعون في التعبير عن غضبهم. تقول السيدة إن أهل الحي فرحوا بدايةً بانتعاش الحركة الاقتصادية، لكن سرعان ما اكتشفوا أن ما يحصل في حيّهم مأساوي لجهة «عشوائية العمل، وعدم وجود قانون ينظّم الحياة الليلية في بيروت، وقلّة احترام أصحاب المقاهي و«السهّيرة» لحقوق الأهاليويوضح أحد شقيقيها أن المشكلة تتألف من نقطتين رئيسيتين: «الأولى، ارتجاج المنزل من الموسيقى التي يضعها أصحاب المقاهي على صوت مرتفع حتى ساعات الصباح الأولى. والثانية، تجمّع شباب كثر على طول الطريق أمام المقاهي والنوادي الليلية، ومعظمهم يكونون سكارى فيتحدثون بعضهم إلى بعض بصوت عالٍ جداً، ويتبادلون الشتائم». والعشريني، بحسب الشاب، «يبدو وسط هؤلاء المراهقين عجوزاً».
ويلفت الشقيق الآخر إلى انتهاك «حقّنا الشرعي في النوم»، موضحاً أن ارتفاع السقف في النادي الليلي في بنايته يتخطى خمسة أمتار تقريباً، الأمر الذي يزيد من تأثير الصدى. ولم يكلّف مستثمر المحل نفسه وضع إسفنج عازل للصوت على الحيطان.
ويتذكر أحد الشابين أنه حينما كانوا قبل بضع سنوات يلعبون كرة القدم في أرض مجاورة، كانت القوى الأمنية تأتي عند الساعة الثامنة مساء لتطلب منه ومن رفاقه بحزم العودة إلى منازلهم لعدم إزعاج الجيران. بينما تتساهل القوى الأمنية الآن مع مسبّبي الصخب. وتوضح السيدة أن الكثير من سكان الحي قصدوا المخافر مراراً، وكان المعنيون يعدون بمتابعة احتجاجهم من دون القيام بأية مبادرة عملية. وتبين لاحقاً، بحسب السيدة، أن بعض أفراد القوى الأمنية ينتظرون الشكاوى ليُحصّلوا رشوة أو ما يشبهها. وحين يقوم بعض الأهالي برشق «السهيرة» بالمياه، تكتفي القوى الأمنية بالوقوف بعيداً والتبسم للفريقينويضاف إلى «مأساة» الأهالي هذه أن السير في نهاية الأسبوع يكاد يتوقف بشكل كامل بين الواحدة والثالثة فجراً، من مدرسة الفرير إلى طلعة العكاوي. ويقفل البعض الطرق الفرعية والمواقف الخاصة بسياراتهم. ويتذمّر أحد سكان الحي من اعتقاد البعض أنهم بافتتاحهم مقهى يحتلون المنطقة، إذ يضعون عوائق حديد في نصف الطريق ويحجزون لزبائنهم مواقف، أما أهل الحي فيفترض أن يتعايشوا مع الواقع الجديد!

إعادة ترتيب داخلي

هكذا بين صخب الشارع والموسيقى الرجّاجة، يعيد الناس ترتيب «ديكور» منازلهم. ينام البعض في الصالون، والبعض في الحمام. ويؤكد أحد أهالي الحي إجرائه في منزله قرعة لمعرفة من سينام فوق طاولة المطبخ. فيما تشير إحدى السيدات إلى أن أسوأ الليالي هي تلك التي يخصصها البعض للـ«كاراأوكي»، وتتابع بالفرنسية قائلة إنها تسمع «نشازاً» لا يمكن أبداً تخيّله. وتتعدد الروايات بين من ينام في عمله، ومن يتأخر في الاستيقاظ للتوجه إلى مدرسته، ومن تخطّى عمره خمسين عاماً ويبكي لعجزه عن النوم.
وعلى هامش الرواية، يسخر بعض الأهالي من ضحك وزارة السياحة عليهم بلافتات تقول إن حيّهم ذو طابع تراثي. ويذكرون أسماء عدة مقاهي ونوادٍ ليلية يقولون إنها غير مرخّصة. ويؤكدون البحث الجدّي عن وسيلة ليهجروا منازلهم التي لم يتركوها في عزِّ الحرب. ويقول أحدهم بصوت خائب إنه يعلم أن العودة إلى حياته السابقة شبه مستحيلة من حيث الهدوء أو القدرة على النوم في الوقت الطبيعي. لكن أقلّ ما يمكن الدولة أن تفعله لأبنائها على هذا الصعيد، هو تنظيم عمل هذه المحال، وتحديد عملها بمواعيد واضحة.






مسؤولية المستثمر في القانون وكان حق الملكية قيد صاحب الحق، الفرد، لمصلحة المجموعة أو لمصلحة فرد آخر. علماً أن القانون اللبناني لم يذكر صراحة وجهة التعاطي القانونية في حالة «الضرر غير المألوف للجوار». فيما اعتبرت المادة 1197 من مجلة الأحكام العدلية أنه «لا أحد يُمنع من التصرف بملكه أبداً إلا إذا كان ضرره لغيره فاحشاً». وأجمع القضاة في أحكامهم المتعلّقة بهذه الأمور على النظر إلى «الأسبقية الجماعية» التي من شأنها تحديد طبيعة الحي أو المحلة التي توجد العقارات فيها.
وتجدر الإشارة إلى أن التراخيص لا تجنّب المستثمر مسؤوليته عن الارتكابات المخالفة للقانون، وبالتالي عن هدر حقوق المتضررين. ويلجأ القضاء في هذه الحالات إلى الحكم بالتعويض على المتضررين لا بالإغلاق.