جاد نصر الله
سؤال وحيد شغل بال أهالي الضاحية الجنوبية بعد العدوان الإسرائيلي الأخير: على من تقع مسؤولية إعادتهم للانتظام في دورة الحياة من جديد بعد أن تداعت سقوف منازلهم وهَوَت الجدران التي أوتهم لسنوات طويلة؟ ملأ المسؤولون فضاء الضاحية بالوعود، وأغرقوا ساكنيها بدوامة أرقام وتواريخ لم تبصر النور. تسعة أشهر مضت على انتهاء الحرب، فأطلق «حزب الله» مؤسسة تلتزم إعادة المكان أفضل مما كان عليه، فهل يصدق وعدها؟

ساعات قليلة مضت على صمت البنادق، سارع بعدها جهاز «حزب الله» بإجراء المسوحات الميدانية، ورفع تقريراً دقيقاً بَيَّنَ من خلاله واقع الأمور على الأرض التي نالت حصة الأسد من ضربات الإسرائيليين. وضع خبراء الحزب بمختلف تخصصاتهم تقديرهم الأولي لكلفة إعادة الإعمار ورسموا استراتيجية النهوض بالمدينة من جديد. وحين طمأن الأمين العام للحزب حسن نصر الله الأهالي بعد ذلك بأسابيع قليلة، وفي أول ظهور علني له منذ الحرب، إلى أن حزبه سوف يقوم بكل ما يلزم في حال تقاعُس الدولة عن واجباتها، لم يبن على فراغ، لكن أعطى إشارة إلى ما قطع محازبوه من أشواط بعيدة في التحضير له خلف كواليس ضاحية عارية. وعليه فحجر الأساس الذي سوف يوضع في الخامس والعشرين من الجاري لن يكون تقليداً في احتفال رمزي. سيقفل المحتفون راجعين من حيث أتوا تاركين الساحات لمطارق العمال.
سبر أغوار «وعد» بحثاً عن هويتها الحقيقية يوصلك إلى طريق مسدود مهما حاولت تغيير الوجهة؛ تقرع أبواب الحزب وبلدية حارة حريك ومدير المؤسسة فيحيلك الجميع إلى المعمار رهيف فياض، أبو الشركة الروحي الذي فُوِّضَ النُطقَ باسمها عملاً بمنهجية التكتم المفروضة على أعضائها الدائمين وجميع من يحوم على تماس دوائرها. يدفعك فياض إلى عالم العمارة ويغرقك في رمال تتحرك بمفرداتها. يستعير لها صفات إنسانية ويحترف الإسهاب في سرد انتروبولوجيا المكان، فلا يترك لك مجالاً للسؤال عن التمويل والميزانية والأمور الإدارية والعقود والمناقصات وما يطوف في الغرف المغلقة.
السرعة؛ مفردةٌ تَهجُسُ بها إدارة المؤسسة، عامل استفزاز دفع إلى إنشاء شركة خاصة تتولى عمليات البناء في الحيز الجغرافي جنوبي العاصمة بيروت. بالإضافة إلى ما تمثله «وعد» كَوكيل عن الساكنين، مالكين كانوا أو مستأجرين تتولى تمثيلهم أمام المكاتب الهندسية والمتعهدين، فإن مهمتها الأساسية استشارية تقضي بوضع المخطط التصميمي للمساحات المدمرة في منطقة لا تتعدى أربعين هكتاراً، أي ما يمثل 7 في المئة من مساحة الضاحية ككل. تراقب لجنة الإشراف العليا إعداد المخطط التصميمي العام كما الدراسات التفصيلية، وتتألف من عدد من أصحاب الكفاءة وشخصيات رائدة في حقول نشاطاتها المختلفة تم انتقائهم في مطلع كانون الأول من العام المنصرم.
يتحدث فياض عن «الإصابة» (أو عمليات القصف التي تعرضت لها الضاحية) واصفاً إياها بالموضعية، لذلك وجبت المعالجة بـ«التدخل موضعياً، فـلا ضرورة لعملية جراحية كبرى تعيد فرز الملكيات أو تطرح مفاهيم جديدة كإنشاء شركة عقارية». لم تُعَدَّل مساحة أي من العقارات في المشروع الجديد، بمعنى آخر، «لا ملكيات كبرى ولا ضم ولا إعادة فرز بحيث نُمِيتُ الملكيات القديمة ونستبدلها بشركات عقارية كما يظن البعض». ستبقى الملكيات ذاتها وسيُعاد بناء المباني التي كانت قائمة على العقار بالحفاظ على عدد الطوابق نفسه وضمن الشروط القانونية الملحوظة في التخطيط، مع الإشارة إلى النقاط الحساسة في المكان؛ مثلاً، الأبنية الموجودة على زوايا الشوارع التي لحظ المخطط التصميمي أهميتها في كل الأمكنة. مبنيان فقط طالهما التخطيط الجديد وجبت إزالتهما على حد قول أحد أعضاء الهيئة.

حقوق الساكنين

ينطلق الفكر التصميمي في المنطقة كما يشرح فياض من ضرورة احترام النسيج القائم، سواء كان في المباني المدمرة داخل منطقة العلاج أو بامتداد الأحياء المحيطة بمنطقة الدمار. وللنسيج عدة مكونات؛ إذ تحدده أولاً شبكة الطرقات بوصفها العنصر الأقوى، إضافة إلى النسيج العقاري، أي الملكية، وشكل توزع العقارات داخل المنطقة، وأخيراً النسيج الاجتماعي في هذا النسيج المديني. «إذن المهم إعادة هذا النسيج بمكوناته الثلاثة بحيث تستطيع أن تعيد إلى الناس حقوقهم»، كانت هذه المنطلقات الأساسية للمقاربة. يكمن التحدي الأكبر في القدرة على الصناعة من القائم مدينةً يسكنها نسيجها الاجتماعي الذي كان موجوداً فيها قبل الحرب». تحديات كبيرة يسهل الإعلان عنها، غير أن النيات لا يمكن صرفها ولا استثمارها، فكيف سيُنجَز كل ذلك، وخصوصاً حين تلزم «وعد» نفسها بـ«إعادة بناء المدينة وإزالة طابع البناء الموجود بدون نظام إلى بناء منظم دون التعدّي على الحقوق؟» الخطوة الأولى هي تطبيق التخطيطات الملحوظة في المنطقة منذ ستينيات القرن الماضي، بحيث يصبح شارع الشورى أو شارع الدكاش الشارع الرئيسي الذي يربط طريق المطار القديمة بطريق كميل شمعون، بمعنى آخر «يوصل أطراف المنطقة الداخلية بأطرافها الخارجية من الحدود إلى الحدود». البناء القديم الذي استحال ركاماً لم يكن على علاقة حميمة بالشارع. الخطوة الثانية سوف تعيد توطيد الروابط بينهما من خلال التنفيذ الدقيق لهذه المخططات، «فهي تعني التراجعات عن حدود الشارع وبناء موازٍ له وعلاقة مختلفة عمّا عرفته في السابق». يتعامل المبني مع عقارات قديمة لا رابط منطقي لها بالشارع لأنها بنيت على عقارات زراعية كانت تخدمها طرقات غير هذه الطرقات فتبعت اتجاه العقارات. سيُعاد حالياً بناؤها بموازاة الطريق تماماً مع الحفاظ على كل الفسحات والتراجعات وفضلات الأملاك العمومية التي نجمت عن عملية التخطيط لتضاف جميعها إلى الحيز العام بحيث «يتنفس النسيج» بحسب فياض. أما عن التكامل مع المبني القليل الناجي من القصف، فهو ينحصر ضمن الحدود في مثل هذه الحالات. وعلى طول شوارع منطقة حارة حريك التي هُدِمَت، ما زالت بعض الهياكل الإسمنتية لعدد قليل من المباني تنتصب عارية ويجري العمل على ترميمها بعدما تبيّن أنها صالحة للسكن. التعديلات على هذه الأبنية سوف تطال الطوابق الأرضية فقط بحيث يتم توسيعها قليلاً لتتساوى مع خط الشارع، «ممكن أن نتدخل في الواجهات وفي الألوان وفي طبيعة الفتحات في الجدار وفي الطابق الأرضي بحيث نجعله يعيد كتابة عمارة الشارع».
أما عن التأكد من هذه الحقوق فهو أمر يسير بالاستناد إلى خرائط الفرز الرسمية التي تقدم بها المالكون وخرائط الفرز الخاصة الصادرة عن البلديات. فكل مكتب وشقة ودكان هو حق مستقل وجميعها موجودة على خرائط تفصيلية سوف يعتمدها المصمم ويُعيدُ من خلالها لأهالي المنطقة أملاكهم وفق وثائق رسمية لا بالارتجال أو الكلام الشفهي. هذا الاهتمام الذي توليه «وعد» لإعادة الحقوق كاملة ينبع من رؤية المسؤولين فيها بضرورة إنتاج طابع الحي التجاري كما كان عليه، أي بالمناخ نفسه والموقع الاجتماعي نفسه للتاجر ولسواه من الأهالي، وقد اشترطوا على المصممين كما يقول فياض « إعادة المنزل إلى حاله في ما يتعلق بعنصر التوزيع الذي يشير إلى طريقة الحياة وعيش الناس، أي إلى الطبيعة الاجتماعية للساكنين».

معايير التصاميم

يصل عدد المباني المدمرة في مربع حارة حريك إلى 250 مبنى، أي ما يفوق خمسين في المئة من عدد المباني قبل سقوطها. وقد وزعت اللجنة الدراسات على أكثر من ثلاثين مكتباً يُعدون الآن دراسات تفصيلية بعد أن أعطوا مهلة شهر واحد لتقديم تصميماتهم الأولية. وقد تم انتقاء المكاتب التي مضى على وجودها «في السوق» عدد كبير من السنوات، وتملك في رصيدها خبرة جيدة في بناء المساكن برهنت من خلالها قدرتها على تقديم ملفات متكاملة. ووُزِّعت المربعات على فرق عمل انطلاقاً من كمية الأشغال ومن قدرة كل فريق، «تراكم سنوات الخبرة في التعامل مع مواضيع من هذا النوع يزيد من قدرة الفريق على التعاطي مع دراسات صعبة مليئة بالمعوقات» يبرر فياض. فالصعوبات بحسب رأيه لا تكمن في تصميم بيت، بل في تصميم مبنى قادر على التواصل مع المبنى المجاور له في المقام الأول، ومن ثم مع المجمع الأكبر الذي يرتفع من حوله، وتأتي علاقته بأصحابه في المقامين الثاني والثالث. «...لا يمكن أن نهمل بشكل من الأشكال إمكان الحوار المباشر مع الساكنين»، ووفق هذه المعادلة يشير فياض إلى أنه عندما دخل هؤلاء الناس إلى منازلهم قبل سنوات لم يختاروا طريقة عيشهم، بل فرضها عليهم التاجر، « عنصر الاختيار الآن هو أفضل بكثير، فصاحب المنزل يبدي رأياً تفصيلياً في بيته قبل أن يُعَمَّر. ونتعامل مع شكاوى المالك ــــــ الزبون بكل المرونة اللازمة».
فُرِضَت على المهندسين المشاركين في ورشة الإعمار هذه بعض القيود، ولن يُسمَح لهم بتجاوزها، عليهم احترام التخطيط ودراسة واجهة موحّدة، وهو مُجبَر على احترام مبدأ التلاصق. أما على مستوى التنظيم العام، فعلى المهندس أن يأتي بكتل بسيطة ويبتعد عن التعرجات والأمور المتعددة بشكل عشوائي. وفُرض أيضاً شرط توحيد الشرفات «لأن الشرفات المشتتة يصنعها التاجر لأغراض تجارية، يبيع الشرفات كما يبيع الأمتار المربعة». سنعكس هذه المسألة على غلاف المبنى، إذ لن يتجاوز عدد الشرفات اثنتين، واحدة كبيرة أمام الصالون أو غرف المعيشة، والأخرى أمام المطبخ تستعمل للخدمة.
لا جدول مواعيد محدد لتسليم المباني، وإن كان الجميع مستنفرين للعمل بأقصى ما استطاعوا من سرعة. صلاحيات «وعد» كبيرة والأهداف التي وضعتها نُصب عينها صعبة التحقق، لكنها غير مستحيلة. فهل نرى التخطيطات المرسومة على الورق تُنجَز يوماً، أم ستبقى أحلاماً غير مكتملة، ركاماً يُقصف قبل التقاط أنفاسه ليرتفع من جديد؟




المربع الأمني