ابراهيم الامين
حتى مساء أول من امس، لم تكن القوى الأمنية والعسكرية في الشمال تتوقع أن يحصل ما حصل. وخطة المداهمة التي وضعت للشقة التي قيل إن سارقي مصرف البحر المتوسط في أميون كانوا فيها، لم تأخذ في الحساب امكان وجود وضعية عسكرية ذات طابع قتالي لدى المجموعات التي تقول السلطات إنها تنتمي إلى «فتح الإسلام».
وأكثر من ذلك، فإن الطابع الأمني الذي يرافق عادة كل نشاط عسكري، بدا متخلفاً للغاية، وهو يعكس إما جهلاً وإما تراخياً غير مفهوم الاسباب. لكن الحصيلة أن الشمال وأهله، وكذلك القوى الامنية، دخلوا في مواجهة يعلم الله وحده مداها الفعلي، برغم كل الكلام حالياً على حسم عسكري وخلافه. علماً بأن القيادات العسكرية والأمنية تعرف تماماً أن لعبة الاستئصال التي جرّبت في كل دول العالم لم تؤدّ سوى إلى مزيد من التوتر.
قبل شهور طويلة، وبعد وقت قصير على انكشاف أمر «فتح الإسلام» إعلامياً، بادرت قوى فلسطينية عليمة بأوضاع المخيمات والقوى الوافدة إليها من بعيد، إلى التواصل مع قادة سياسيين وأمنيين، رسميين وحزبيين، ومع مراجع نافذة في الدولة، ونبّهت هؤلاء جميعاً إلى أن الامر يتجاوز ما يُسرّب إلى الصحف عن مجموعات فلسطينية منشقّة عن حركة «فتح ــــــ الانتفاضة» أو عن لعبة من «مخلّفات الاستخبارات السورية في لبنان». وجرى التأكيد، صراحة، أن هذه المجموعات لا تقع تحت هذا التصنيف، وأن وجود عناصر سابقة من «فتح» ضمن هذه المجموعة، لا ينفي أن القواعد المتوسعة لها تتالف من مجموعات تعيش في المناخ الايديولوجي والسياسي للجماعات الاسلامية السلفية، وأن من بين هؤلاء مجموعات من الفارين من أوضاع سياسية وأمنية وقضائية، وهم من جنسيات مختلفة، أردنية وسعودية ويمنية ومصرية ومغربية وجزائرية، إضافة إلى فلسطينيين يحملون وثائق سورية. لكن كل هؤلاء لا يمثّلون اكثر من 30 في المئة من حجم التنظيم الذي يضم في صفوفه غالبية لبنانية، بينها من تحمس للعمل المسلح بعد الغزو الاميركي لأفغانستان والعراق، وممن فروا من الأحياء الفقيرة في طرابلس منذ ما قبل الخروج السوري، وأن الرابط الفعلي بين هؤلاء جميعاً هو بناء إطار يؤوي من لا مأوى له، أو من هو عرضة للملاحقة الأمنية.
وبحسب هذه المصادر، فإن التنظيم باشر بناء آليات تواصل مع مجموعات موجودة في كل مخيمات لبنان، ولكن مع مجموعات تعيش في مدن وبلدات شمالية، سواء في طرابلس او الضنية او المنية او القلمون. وإن هؤلاء يواجهون أوضاعا تتطلب أنواعاً مختلفة من العلاج، بينها الأمني المباشر والذي يفترض محاصرة واعتقالاً وعقاباً، وبينها ما هو سياسي من خلال فتح الباب امام انواع من النشاط الذي يصنف حتى اللحظة في خانة المحظور. وبعضها الثالث وهو الاهم يتصل بمشروع تنمية حقيقي للمناطق التي يعيش فيها هؤلاء، وألا يقتصر الامر على عملية تعبئة مفتوحة على امور لا تؤدي في نهاية المطاف الى نتائج يريدها «المعبئون».
وجرى لفت انتباه قوى أمنية رسمية تعمل في فلك تيار «المستقبل» الى وجوب أخذ الحذر من التعبئة المفتوحة على افق طائفي ومذهبي، وأن الأمر لا يمكن أن يكون محصوراً في وجهة معينة، وغذا ما أراد أحد من الأقطاب السياسيين المحليين استخدام مثل هذه المجموعات في وجه خصومه من طوائف أخرى، فعليه الأخذ في الحساب أن أهداف هذه المجموعات لا تقف عند حدود العداء للشيعة، خصوصاً أنه لا وجود للشيعة في مناطق الشمال أولاً، ثم إن طريق العراق ليس مغلقاً تماماً في وجه هؤلاء.
واذا كان هناك من يبحث بجدية عن الخيط الرابط بين هذه المجموعات وبين تنظيم «القاعدة» العالمي، فإن بعض المعطيات ذات الطابع الأمني يمكن أن تشرح بعض هذه الجوانب، خصوصاً عندما أدّت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان إلى تعديل جدول أعمال بعض هذه المجموعات. فتنظيم «القاعدة» المركزي كان يريد، في فترة معينة، توريط كل من يقع اسمه على لائحة الارهاب الأميركية في معركة مباشرة مع الاميركيين، وهو امر يصعب تحقيقه في لبنان. لكن المواد الاضافية للعمل في العامين الاخيرين انحصرت في توفير الطريق لعشرات الشبان من ابناء هذه المناطق للوصول الى العراق، ومباشرة العمل في لبنان في وجه الوجود الاجنبي. ويعلم كثيرون أن هناك جهوداً جدية لهذه المجموعات في العمل على ما تسميه «فتح الطريق إلى فلسطين بالقوة»، وأن هذا المبدأ يفرض احتمال المواجهة مع «حزب الله». وكان الأخير واضحاً في تأكيده أنه ليس حارساً لإسرائيل، لكنه غير معني بتوفير أي مناخ لهذه المجموعات غير المعروفة الأهداف النهائية.
لكن الخصم الآخر والأكثر كرهاً لدى هذه المجموعات هو القوات الدولية المنتشرة في الجنوب، وقد حصل نقاش كثير حول طريقة مواجهة هذه القوات إن بالعمليات المباشرة ضد حركتها في بيروت أو على الطرقات الدولية، ووصل النقاش إلى طريقة الوصول إلى قواعد هذه القوات في الجنوب. وثمة سيل من المعلومات حول هذا الأمر، وتقارير كثيرة لدى الأجهزة الأمنية الغربية.
لكن المعضلة التي تواجه هذا الواقع تكمن في أن الفضاء العام الذي يعيش فيه هؤلاء هو الواقع السياسي للسنّة في لبنان اليوم. وبرغم رفضهم من الشارع العام، والسنّيّ خصوصاً، فإن غالبية تصريحات القادة الموالين لتيار «المستقبل»، بمن فيهم قياديون من هذا التيار، وحتى مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني، كانت تتناول وضع هؤلاء من زاوية ضيقة جداً وذات بعد سياسي. إذ يقال تارة إنهم يمثلون العصب السني وإن التعرض لهم هو تعرض للسنة، وإنه لا تجوز ملاحقة من يحمل بندقية بينما يترك من يحمل الصواريخ. ويقال تارة أخرى إنهم يتحركون بتعليمات من سوريا، وإن عملهم يستهدف النيل من مشروع المحكمة الدولية... الى آخر المعزوفة المملة. وطوراً تقع السلطات، خصوصاً فرع المعلومات الذي يشرف عليه تيار «المستقبل»، تحت ضغط العواصم الغربية التي تطالب بخطوات ردعية ضد هؤلاء.
على ان المواجهة التي اشتعلت امس، قد يكون لها هدف هو الأقسى، وهو توريط الجيش اللبناني في مواجهات داخلية تبدأ في الشمال وقد يكون هناك من يريد لها أن تنتقل إلى مناطق اخرى، وهو الأمر الذي يجعل الجيش امام مسؤولية مزدوجة: توفير الأمن بأعلى درجات من الحكمة، وإعادة الملف برمّته إلى السياسيين الذين بات عليهم أن يشعروا، ولمرة أخيرة، بأن استمرار استغلال قضية الرئيس رفيق الحريري سيدفع بالناس يوماً ــــــ وليس بعيداً ــــــ إلى وضع هذا الملف جانباً حتى نستطيع متابعة حياتنا في شكل عادي. وإلا فإن المواجهة القائمة ستكون مقدمة لمسلسل بشع يأتي على كل شيء.